مبدأ الإصلاح
قال الله تقدست أسماؤه: “ذَلِكَ مِنْ اَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ” [هود، 101-100] ثم قال جلت قدرته “وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ اِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ” [هود، 102] وقال جلت قدرته “فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ اَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ” [هود، 112-113]. ” ثم قال جل شأنه: “فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الاَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ اَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبّك لِيُهْلِك الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلهَا مُصْلِحُونَ” [هود، 116-117].
تُحملنا هذه الآيات الكريمات مسؤولية الإصلاح بالمعنى القرآني للكلمة، وتعلمنا كيف نبني مجتمعا من المواطنين يتحلى بروح الإيجابية والعطاء والبذل والشعور بالمسؤولية المشتركة في النهي عن الفساد في الأرض، ومقاومة الظلم والظالمين، وتنفيذ مشروع الإصلاح الذي هو وحده صَمَّامُ الأمان من عذاب ربك وأخذه “إن أخذه أليم شديد”.
وفي هذا السياق أريد أن أتحدث عن معنيين جليلين لا يستقيم الإصلاح الذي ننشده بدونهما:
الأول: الأمل في الإصلاح والتفاؤل به؛ فلقد كان الناس ومازالوا يعتقدون في كل عصر وفي كل مرحلة أنهم وصلوا إلى القاع، وأنهم قاب قوسين أو أدنى من الهاوية، وأنه ما مر على غيرهم زمان أسوأ مما هم فيه، لكنهم مع ذلك كانوا يتطلعون إلى بلج الصبح وإشراقته “أليس الصبح بقريب“.
والشعوب التي يغبطها العالم اليوم على ما ينعمون به من عدل وحرية ورخاء كانت في فترة من الفترات أسوأ مما نحن فيه، ولكن من خلال مباشرة الممكن وعدم انتظار تحسن الظروف، والإيمان بقدرة الإنسان الخلاقة وفعاليته المستمرة في مغالبة التحديات، والبدء بالتخطيط والتنظيم، والإبداع والتضحية وصلوا إلى ما وصلوا إليه.
عليناأن نفترض دائما أننا لم نصل إلى أسفل الهاوية، وأن التحسن الذي قد يطرأ على أحوالنا لا ندري متى يكون، فذلك غيب لا ندري هل سندركه لنعمل في ظله أم لا؟
علينا أن نتحلى بروح الإيجابية من خلال الوعي بأن كل تحد يسبب أزمة؛ لكنه في الوقت نفسه يمنحك فرصة لتكتشف نفسك والقدرات والطاقات التي بين يديك والظروف الموضوعية التي من حولك لتكشف إمكانات جديدة للعمل والحركة الإيجابية والأداء الجيد.. ولنتذكر في هذا السياق الحديث النبوي العظيم الرائع الذي أخرجه البخاري في-الأدب المفرد-من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال”إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها“.
فإن استطعت أن تعمل ما هو ممكن وما هو في مقدورك فلاتتردد ولا تتوان عنه، ولا تنتظر تحسن الظروف وملائمة الأقدار.. إذا عملنا بهذه النصيحة النبوية سنكتشف أن فن الممكن والعمل به سيجعلنا نتمسك بطرف الخيط المفقود، ونبني رأس جسر للعبور إلى بر الأمان. إذا فعلنا ما هو ممكن اليوم وإذا غرسنا الفسيلة صار ما هو مستحيل اليوم ممكن غدا.
المعنى الثالث: لا بديل عن العمل ولا مناص منه؛ ليس الإنسان قاصرا ولكنه مقصر في الانتفاع بطاقاته الممنوحة. فالله جل وعلا أعطانا من الإمكانات والقدرات ما نستطيع أن ننجز من خلاله أعمالا عظيمة وكبيرة يظنها المرء لأول وهلة معجزة وخارقة للعادة أو كثيرا ما تداعب خيال الواحد منا طور الفوز والانتظار والنجاح والتفوق دون أن نخطو خطوة واحدة في بذل الجهد الذي يؤدي إلى ذلك.
إن مشكلاتنا الأساسية لا تكمن في الطاقة التي نمتلكها فالطاقات وزعت على البشر على نحو متقارب لكن المشكلة أننا لا نريد أن نعمل؛ إنه عندما تتوفرالقدرة لدينا ثم لا نعمل فمعنى ذلك أننا نفقد حقيقة الإرادة كما قال سبحانه وتعالى “ولو اَرادوا الخروج لأعدوا له عدة” [التوبة، 46].
إن في تقاليدنا وثقافتنا حمى تجتاح الصغار والكبار وهي حمى الإنجاز السريع، والثراء السريع، والبحث عن الغنائم دون أن نبذل جهدا مساوقا مناسبا، وهذا يقود المجتمع إلى مزالق كثيرة وعوائد سيئة تدفع إلى الكذب والغش الانحراف واتباع مسالك الفساد..
ولا يخفى على أحد أن كل منتج مهما كان نوعه وجنسه تعير جودته بمقدار ما بذل فيه من ساعات عمل وفكر وتأمل؛ إن علينا أن نُعود الأبناء والناشئة على ثقافة العمل ومُكابدة المشاق، والمران على طول النفس، والصبر على حل المشكلات، والاجتهاد المتواصل وإلا فلن نجني سوى الشوك.
إن أحد الأسباب الرئيسة للبطالة التي تجتاح دولا عدة بنسب مرتفعة جداأن الناس لا يريدون أن يبذلوا جهدا وإذا قدروا على البذل لا يعرفون ماذا يصنعون بقدراتهم وامكاناتهم، ومن هنا تشتغل استراتيجيات الإصلاح في المجتمعات المتقدمة على لازمة ضرورية وهي مشاريع التكوين والتكوين المستمر والاستثمار الدائم في الرأسمال البشري وتأهيله لاكتساب مهارات وخبرات جديدة تتناسب مع سوق العمل وحاجات التطور الاجتماعي والاقتصادي.
والله المستعان
-
كلام حكيم.. ف”يا ليت قومي يعلمون”..فيعملوا ليصلحوا وفق المنهج الرباني السامي..
التعليقات