كيف نرتقي بأخلاقنا(2)
قال الله تقدست أسماؤه: “ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم” (فصلت: 33-34).
يريد الله جل وعلا أن يتربى الناس تربية أخلاقية اجتماعية سامية حتى يواجهوا مشكلاتهم الفردية والاجتماعية بحظ كبير من الوعي والحلم والأناة، وحتى ينخرطوا في مختلف العلاقات والتجاذبات والمعاملات التي تجري في الحياة اليومية على أساس حسن الفهم للأوضاع السلبية والإيجابية المحيطة بهم، والصبر على الانفعالات الحادثة، والمستجدات غير المتوقعة من غيرهم.
يريد جل وعلا أن يعلمك أن كثيرا من القضايا والمشكلات، لا يمكنك أن تهتدي إلى سبيل حلها إلا إذا خَبرتها طويلا، وصبرت عليها أمدا… ولا يمكنك أن تفهمها وتستوعبها إلا إذا عرفت خلفيتها وسببها وسياقها والقانون الذي يحكمها.
ومن ثم رفع القرآن منهج “ادفع بالتي هي أحسن” إزاء كل المشكلات والمشاحنات التي تقع للناس فيما بينهم. ومقتضى هذا الأمر القرآني: أن تدرس هذه المشكلات بعقلية واسعة، وصدر كبير، وأن تكون نيتك وروحيتك روحية الإنسان الذي يبحث عن التكامل لا التقاتل، وروحية الإنسان الذي يبحث عن موضوع مشترك يمكن أن يستقطب اهتمام المخالف، ويجتمع حوله كل الأطراف، ويكون داعيا للتقارب والتفاهم والتعاون؛ لأنه لا يستوي الرفق ولا العنف، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، والمراد بالحسنة ـ بالإضافة إلى ما ذكرت في الحلقة السابقةـ أسلوب الرفق والسماحة واللين، والسماحة هي سهولة المعاملة فيما اعتاد الناس فيه المشادة والتدقيق والمحاسبة، والسيئة هي أذى الناس بالقول أو الفعل، تصريحا أو تلميحا… هي أساليب التشفي والحنق والغيظ…
ومنهج “ادفع بالتي هي أحسن” معناه: استعمل كل ما بوسعك.. استعمل جميع الطرق والأسباب التي تفعل فعلها المؤثر في امتصاص غضب الخصم وتجميد عداوته… استثمر كل طاقاتك الفكرية والنفسية لحل المشكلة بالتي هي أحسن، بالتي هي أنجع وأقرب لأن تجلب إليك الأصدقاء وتقلل الأعداء، بل أن تحول الأعداء إلى أصدقاء… هذا هو مطلب الآية، ومطلب الأخلاق الإسلامية: “فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”؛ كيف نبلغ هذا المقام الخلقي الرفيع؟ كيف نرتقي إلى مستوى الأمة الحضارية المهذبة في اجتماعها وسلوكها وعلاقاتها ومواقفها وانفعالاتها… أمة تتصف بصفاء الذهن، وسلامة الصدر، ونظافة اللسان، وتتحلى بثقافة الاحترام وليس ثقافة “الاحتراب” والكراهية والتآمر والتحريض وشفاء الغيظ…
كيف نجعل الناس يفكرون في كل ما يحيط بهم ليكون الهدف هو حل المشكلة وليس تجميع وتركيم الأحقاد والإحن والسخائم في الصدور… كيف نجعل المسلمين في مختلف مناشط الحياة يسعون إلى حل المشكلة وليس شفاء الغيظ.
الأمر جد، أيها الإخوة، ويتطلب ـ فيما يتطلب ـ بذل جهد كبير في تنمية ثقافتنا وأسلوبنا في فهم الآخرين، وتجديد مفردات لغتنا الاجتماعية وخبراتنا في التواصل مع الناس عموما؛ ولعل هذا الاجتهاد المطلوب في اكتساب أخلاق الفهم، وتحصيل أخلاق التواصل والسلوك هو ما يشير إليه القرآن: “وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم”.
إزاء العاقل الذي لم يغلب على عقله، وقد أحاطت به مشاحنات نفسية واجتماعية مضجرة، طريقان لا ثالث لهما: إما أن يحل المشكلة، وإما أن يحاصر أسبابها ويجمدها على الأقل، ولا سبيل ولا مسوغ ولا مشروعية للجوء إلى العنف أبدا؛ إذ العنف لا يسعد على حل المشكلة، بل هو موجب تعقيدها.
نعم، الأمر جلل ولعظمه يستلزم صبرا جميلا وفيرا على نحو قوله تعالى: “ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت اَقدامنا” [سورة البقرة، الآية: 248]…؛ لأن المرء ـ بطبيعته الغريزية ـ في مواقف الاستفزاز والشعور بالظلم يستطيع أحيانا أن يكيل بمكيالين، وأن يفجر غيظه، وأن يتصرف مع من ظلمه أو أهانه على طريقة (عليَّ وعلى الناس)، ولكنه يملك نفسه عند الغضب، ويكظم غيظه، ويعفو، ويصفح، ويغفر، ويسامح.. والواقع أن هذا السلوك لا يتصور إلا من صابر حكيم أوتي حظا عظيما من قوة النفس، وصفاء الذهن، وطهارة الجوهر، ونفاذ النظر، وحسن الفهم للعناصر الذاتية والموضوعية للمشكلة وجذورها وعواقبها.
وهكذا كانت أخلاق صاحب الخلق العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت شمائله وسيرته مع الناس ومع نفسه، فقد روى إمامنا مالك في الموطأ أن معاذ بن جبل قال: “آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: “حسن خلقك للناس يا معاذ”، وذكر عن عائشة ـ رضي الله عنهاـ أنها قالت: “ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها”؛ فقولها (إلا اختار أيسرهما) إشارة إلى خلق الرفق واتخاذ اليسر مع نفسه ومع الناس، وقولها (وما انتقم لنفسه قط) إشارة إلى خلق المسامحة والعفو وترك الغضب لنفسه ومصلحته. وتذكروا كلماته السَّنية المدوية التي صدع بها في ثقة ورباطة جأش أمام خصوم الأمس: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
وفي صحيح البخاري باب السلام من الإسلام قال عمار ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار، وقال ابن عطاء الله: “من أخلاق الأولياء ثلاثة: سلامة الصدر، وسخاوة النفس، وحسن الظن في عباد الله”. وقال بعضهم: “لذة العفو أعذب من لذة التشفي، وأقبح فعال المقتدر الانتقام”.
-
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الانطلاق من القرآن الكريم لسبيل الرشاد، ذلك أنه المنهج الرضيّ لمن أراد أن يرتقي في علياء الدرجات، وخاف على نفسه الوحل في سافل الدركات، والفيد من درره لا يتحقق إلا بتلاوته لفظا وقلبا، وباستحضار منظومته الإرشادية من تدبر وتفكر ونظر… يمكن أن تهديه أنواره، فليس كل من يغوص في البحر يجد الدرر.
ويمكن القول إن الكتاب العزيز المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كتاب أخلاق بامتياز، فلا نحاول أن نربطه بالفلسفة من أجل أن نؤرخ له بتاريخ ضارب في الزمان، إننا هنا نتحدث عن منظومة أخلاقية متكاملة، يكفينا مؤونة الاسترسال في طلب الدليل ما افتُتِح به المقال من الآيتين الكريمتين 33-34 من سورة فصلت: وقد كان صاحبه موفقا في الاختيار، فكم من آية تكتنف عالي الأخلاق، ورفيع السمات، ونمرُّ عليها، -ليس كما هو شائع خطأ- مرور الكرام، بل الكرام هم من يوَفُّون الأمور حظوظها، ويقفون على دقائق المسائل يحللون، بل مرور الغافل الذاهل الذي لا وجهة محددة له، فهاتان الآيتان وحدهما يمكن لمن تدبرهما أن يخلي نفسه من مداخل الشيطان فيها، ويتغلب على مطالبها الخبيثة، "إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم" (يوسف: 53).
يمكن أن نرتقي بهذه الآية ليس فقط، بيننا نحن المسلمين، بل بيننا وكل البشرية، فليست الأخلاق حكرا على دين، بل هي مشاعة لكل من أراد أن يهذب نفسه، وينقيها من كل قبيح ينعكس على جوارحه. والميزة للإسلام أنه جاء دعوة كاملة الأخلاق، ألم يقل حبيبنا المصطفى: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
فهلموا إلى سيرة مَن كان خُلُقه القرآن، وتمسكوا بحبل متين ينجيكم من يوم عظيم، فأساس كل خير الأخلاق، وجالب كل شر عدمها، فقد صدق الشاعر حين أنشد:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت """""""" فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
والسلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته -
بارك الله فيكم
-
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
التسامح هو الحب في صورته العملية، وبدون أن يطرق الحب قلوبنا نتعثر في طريقنا ونسقط…
إن إدانة الذات تجلب مشاعر الفشل والبؤس، بينما يجلب التسامح مع الذات مشاعر السعادة، والسلام، والحيوية، والتي يغلب عليها طابع النصر…
تذكر أن الله يغفر الذنوب جميعا؛
أنه هو الغفور الرحيم، بل لقد غفر لك بالفعل وسامحك، ودورك الآن أن تسامح ذاتك بأن تغير أفكارك، وتواصل ذالك التغيير والتفكير في كل ما هو حق وعادل ونبيل وذو خلق حسن.
والتسامح هو منح مشاعر الحب والوئام والتناغم وكل نعم الحياة لكل البشر.
وجزاك الله كل خير -
""علم الأخلاق" فَرْعٌ من الفلسفة، يبحث في المقاييس التي يُمَيز بها بين الخير والشر في سلوك الإنسان، وقد اهتم الفلاسفة المسلمين بعلم الأخلاق وعَرَّفُوه بأنه: علم بالفضائل وكيفية اقتنائها لتتحلى النفس بها وبالرذائل وكيفية تَوَقِّيْهَا لتتخلى عنها. ذ
وهو من العلوم التي تأثر الفلاسفة المسلمون فيها بالفلسفة اليونانية القديمة (الإغريقية) منذ بدأت حركة الترجمة إبان العصر العباسي، وكانت المباحث الأخلاقية قبل ذلك شذرات ومجموعات من الحِكَم والأمثال والوصايا والمواعظ التي لا تجمعها نظرية عامة.
ومن أشهر المفكرين المسلمين الذين عُنوا بالتصنيف في علم الأخلاق على أساس منهجي: ابن مسكويه، والغَزالي، والطُّوسي، والفارابي، وابن رشد، وإخوان الصفا. ومن الكتب المؤلفة في ذلك: "أخلاق الأبرار والنجاة من الأشرار" للغزالي و"الأخلاق" لعضد الدين الإيجي.
والغرض من علم الأخلاق كما يقول ابن مسكويه: أن نحصل لأنفسنا خُلُقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة…
ويرى ابن مسكويه في "تهذيب الأخلاق" أن الطريقة المثلى لضمان صدور الأفعال جميلة نتيجة للخلق الجميل "أن نعرف أولا نفوسنا ما هي، وأي شيء هي؟ ولأي شيء أوجدت؟"
قال جل ثناؤه: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" [سورة الذاريات، الآية: 55].
وإذا وصل العبد إلى معرفة سر وجوده عرف حقيقة الرقي بخلق نفسه، وبلوغه كمالها وغايتها وملكاتها التي إذا استعملها على ما وضعت له بلغ بها الرتبة العلية الرفيعة المقام، قال الله جل جلاله: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها" [سورة الشمس: 9-10].لقد أشار الشيخ الأكبر رضي الله عنه إلى واحد وعشرين خلقا فاضلا، وعَرَّفَ كل خُلُق منها، وذَكَرَ فَضله، وبَيَّنَ ما يناسب الخاصة منها وما يناسب العامة، بإيجاز.
ومن هذه الأخلاق هي:
1. العِفَّة: وهي ضبط النفس عن الشهوات، والاكتفاء بما يقيم صحتها؛
2. القَنَاعة: وهي الاقتصار على ما سنح من العيش، والرضا بالقليل منه، وترك الحرص على المال والدنيا؛
3. التَّصَوُّن: وهو التحفظ من التبذل؛
4. الحِلْم: وهو ترك الانتقام عند الغضب مع القدرة.
وسأحاول إن شاء الله تعالى أن أرجع إلى هذه الأخلاق الفاضلة فأدققها، وأكتب لحضراتكم ملخصا عنها، عسى أن ينفعنا الله بها ويلهمنا حسن الارتقاء إليها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التعليقات