قرّاء وقراءات
لم يحدث في تاريخ الإنسانية ولا الدعوات السماوية على وجه البسيطة أن بلغت العناية بكتاب من الكتب المنزلة أو غيرها إلى عشر معشار ما أتيح للقرءان الكريم من عناية، ولم يتوافر من البواعث والدواعي إلى تدارس أي كتاب وحفظه وتدبره والتفقه في أحكامه ومعانيه وتعلمه وتعليمه ونقله عشُر معشار ما توافر من البواعث والدواعي على تدارس هذا الكتاب العزيز والمنافسة في حفظه وتدارسه ونشره وتبليغه والعمل به والدعوة إليه، أضف إلى ذلك أن يتحقق له ذلك كله بكامل العفوية والتلقائية، ودون تدخل من سلطان قاهر أو قوة عاتية لتنظيم أو جهاز أو حزب أو بعثات تبشرية أو جهات نافذة تمول ذلك وتسهر عليه في سائر أطراف البلدان والأمصار، وعلى مرور القرون والأعصار.
وإن الذي يقرأ تاريخ الإسلام ابتداء من عهد الفتوحات، ليدرك الأثر العميق الذي كان للقرءان الكريم في الإسراع بفتح الأقاليم والبلدان واستقرار الإسلام فيها، وكيف كانت المجتمعات المفتوحة تنضوي تحت لواء دعوته في الحال، ثم لا تلبث أن تلتف حول قرائه وحملته برجالها ونسائها وولدانها، لتستأنف حياتها الجديدة في مساجدها وبيوتها ومرابعها، كأنها ولدت ولادة جديدة وأنشئت نشأة جديدة، وسرعان ما يصبح القرءان الكريم غذاء لأرواحها، ومنهاجا لعملها اليومي، تحصيلا له وتفقها فيه، وتنزيلا له على أرضها واقعا عمليا ومثالا حيا يترسم الصورة الأولى لجيل القدوة الأولى؛ ليبني من خلال احتذائها واقعا له ينهل فيه من هدي القرءان ويقتبس من مشكاة النبوة ما ينير له السبيل، ويغذي به حركته اليومية وانطلاقته لبناء المجتمع الفاضل الذي يطمح إليه، ويسعى إلى أن يعمر الكون فيه بشريعة الله، ويحقق فيه الكرامة والسعادة لجميع بني الإنسان.
فكيف كان الصدر الأول في إقباله على القرءان الكريم تدارسا وحفظا؟ وكيف كانت الصورة الأولى النموذجية لمجتمع القدوة من الصحابة في هذا الشأن رجالا ونساء وولدانا؟
إننا حين نرجع على كتب السيرة النبوية العطرة ودواوين السنة المطهرة نجد حقا ما يجعلنا ننبهر كل الانبهار، وذلك حين نتتبع ما ورد في هذا الصدد من الأحاديث والآثار، مما يجسد لنا معالم هذا الانقلاب الفجائي الذي أحدثه الإسلام في نفوس أتباعه من العرب وغيرهم، وما كان للقرءان الكريم من بليغ الأثر في بناء هذا المجتمع الجديد من جديد وإعادة صياغته وتركيبه على مقتضيات الوحي المنزل، وكيف أدت سرعة التحول فيه إلى اختصار المراحل حتى إنه لا ينقضي من عمر الدعوة عقدان من الزمن حتى يدخل دين الله وكتابه على كل بيت من بيوت العرب، وحتى تنطلق دعوته السمحة في جميع الاتجاهات من الحجاز إلى اليمن والشام والعراق وبلاد العجم ومصر والمغرب وما وراء ذلك من البلدان، إلى أن بلغت دعوته ما اختلف عليه الليل والنهار من الأقطار.
ولقد أعطانا كبير فقهاء المالكية في عصره الإمام أبوبكر محمد الطيب الباقلاني (ت 403هـ) في كتابه “الانتصار لنقل القرءان” صورة بديعة عن جيل الصحابة من المهاجرين والأنصار في إقبالهم على هذا القرءان، وكيف تم لهم ذلك مع ما كانوا بصدده من النهوض بأعباء الدعوة الجديدة وحمل لوائها، والتصدي لأعدائها، إلى أن دخل الناس في دين الله أفواجا، وإلى أن صدق الله عز وجل وعده، فنصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
كان الصحابة مهاجرين وأنصارا قد انصهروا في مدرسة النبوة صغارا وكبارا، فلم يكن غريبا أن يشتد شغفهم بكتاب الله، ولا أن يتسابقوا إلى استقبال ما كان يتنزل من آياته الكريمة غضا طريا، فيسارعوا على حفظه وتحصيله تعلقا به وسعيا في تحقيق الخيرية المنوطة به التي جعلها الله تبارك وتعالى لأهل القرءان؛ لما ورد في حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن أفضلكم من تعلم القرءان وعلمه” [صحيح البخاري: 4: 1919 رقم 4740]…
“يتبع”
-
بارك الله في أستاذنا الكريم
فضيلة الدكتور عبد الهادي حميتو، نريد أن نعرف من سيادتكم السبل الناجحة للتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونريد أن نداوم على قراءة القرآن وعلى الأحاديث النبوية الشريفة، لكن الدنيا تشغلنا والمشاكل تلهينا.
التعليقات