في ذكرى تقديم وثيقة الاستقلال
- د. عبد الله هيتوت
- عضو المجلس الأكاديمي للرابطة
إن إحياء ذكرى 11 يناير 1944 يندرج ضمن مبدأ عام وهو جعل تاريخ الأمة المغربية حيا في النفوس، وإحياء هذه الذكرى هو تقديم المثال للذين أخلصوا لهذه الأمة، وبذلوا الغالي والنفيس من أجل عزتها ورفعة شأنها، وهو كذلك اعتناء وحفظ لأصالة أمتنا ووفاء للتاريخ وأداء للأمانة في أعناقنا، وهذا يتفق مع روح ونصوص وأهداف القرآن الكريم، إذ نجد آياته الكريمة تحدثنا عن الأمم السابقة حتى يتفكر فيها الناس وحتى يأخذوا منها العبرة والعظة: “ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الاَرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بئاياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون” [سورة الاَعراف، الآية: 176]، ولعل من أهم القضايا التي يعتمد عليها في مفهوم التاريخ المعاصر هذا المسار الخطي لأحداث التاريخ، وهذا يعني عدم تكرار تلك الأحداث عبر التاريخ لأن الذي يمضي لا يعود، وهذا يعطي القيمة والأهمية التاريخية المتفردة لكل حدث تاريخي لأنه لا يتكرر، فالتاريخ لا يعيد نفسه يقول الله تعالى: “كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون” [سورة يس، الآية: 30] لذلك فإن احتفالنا بذكرى وثيقة الإستقلال هو احتفال بواقعة تاريخية متفردة لكنها منغرسة الجذور في ذاكرتنا الوطنية، ذلك أن فكرة الإستقلال طبعت تاريخ المغرب منذ القدم… كما أن تطلعه في العصر الحديث إلى الحياة الدستورية أخد صورا عديدة، فمن المعلوم أن الحياة النيابية الحديثة انتشرت في أهم أمم الغرب وأمريكا ثم أخذت بها بعض ممالك الشرق الإسلامية وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي أخذت المطالبة بالنظام الديمقراطي تتخذ أشكالا متنوعة:
• ففي عصر المولى عبد الرحمان يكتب محمد بن عبد القادر الكردوسي الفاسي عن “النظام” في الحياة العامة في بلادنا، وعلى الخصوص النظام النيابي في كتابه “كشف الغمّة”.
• وفي عهد العاهل “محمد الرابع” تتكرر الإشارة النيابية على يد السفير الحاج محمد بن سعيد السّلوي.
• وفي عهد المولى عبد العزيز نجد ثلاث مشاريع للحكم الدستوري:
1. مشروع الحاج عبد الله بن سعيد السّلوي.
2. مشروع الحاج علي زنيبر السّلوي.
3. مشروع الشيخ عبد الكريم مراد اللبناني.
بيد أنه تجدر الإشارة أن تقديم وثيقة الإستقلال خرجت من رحم الحياة السياسية المغربية أواسط الثلاثينيات من القرن العشرين، إذ أعلن عن قيام “حزب الإصلاح الوطني” في شمال المغرب في 11 يناير 1936 وفي هذا الشهر من نفس السنة ظهرت “كتلة العمل الوطني” ثم أصدرت الحماية الفرنسية قرارا بتاريخ 18 مارس 1937 بحلها. وفي أبريل من نفس السنة تأسس “الحزب الوطني” لتحقيق المطالب المغربية، وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الاستقلال كانت حاضرة باستمرار في عمل الزعماء الوطنيين، وأن مقاومة الإدارة الفرنسية لخطة الإصلاح التي طالما نادى بها زعماء الحركة الوطنية لم تزد إيمان المغاربة إلا توكيدا، فمنذ الجماعات الأولى المتمثلة في الزاوية والطائفة إلى ظهور الحزب بشكله العصري، كان المبدأ السري الذي يقسم عليه الأعضاء هو العمل من أجل الاستقلال، إلا أن هناك بعض العوامل عجلت بنضوج الفكرة وبلورتها في عمل فكري توج بتحرير وثيقة الاستقلال.
وقد عملت الحركة الوطنية على تنظيم المواطنين وتوحيدهم وتجنيدهم من أجل المطالبة بالاستقلال، فالعوامل الخارجية كان لها تأثير بيِّن في الدفع بفكرة المناداة بالاستقلال قدما، ففي عام 1941 نشر الحلفاء ما عرف “بميثاق الأطلسي” وطبقا لهذا الميثاق وعد الحلفاء الدول المحتلة بالحرية، ومن ثم تبني مقولة روزفلت في “حق الشعوب في تقرير مصيرها” حيث رحبت الحركة الوطنية المغربية بهذه الخطوة، فأرسلت البرقيات إلى دول الحلفاء تطالب بتطبيق حق تقرير المصير على المغرب، كما تجدر الإشارة إلى أنه بالنسبة لشمال المغرب حيث السيطرة الإسبانية فقد بادر “حزب الإصلاح الوطني” إلى تشكيل جبهة موحدة اشترك فيها حزب “الوحدة المغربية” برئاسة محمد المكي الناصري، وتكونت الجبهة القومية في18 ديسمبر 1942، وفي 11 فبراير 1943 تقدمت الجبهة بوثيقة المطالبة بالاستقلال ووحدة المغرب الترابية وإلغاء نظام الحماية نهائيا، وفي 14 فبراير من نفس السنة قدمت نفس المطالب إلى ممثلي الدول الكبرى في طنجة، وتعتبر هذه الوثيقة من الناحية الدولية أول وثيقة مغربية تطالب بالاستقلال.
أما في المنطقة الجنوبية التي كانت ترزح تحت ظل الحماية الفرنسية؛ فإن الخشية من خطر الوجود الاستعماري شبيه بالنظام العنصري في جنوب إفريقيا، يتعزز ويتسع في ظل الإصلاحات فكانت هذه الأخطار وغيرها تدفع من يعنيهم الأمر إلى الإسراع في إعداد وتقديم وثيقة الاستقلال، وقد اختير تاريخ 11 يناير 1944 لتقديمها من طرف السلطان محمد الخامس نفسه؛ لأن هذا التاريخ كان يوافق يوم الاستقبال الرسمي لمستشار الحكومة الشريفة، والذي كان موظفا ساميا معينا من وزارة الخارجية الفرنسية للقيام بوظيفة اتصال بين القصر والإقامة العامة.
الأبعاد والدلالات للذكرى
– تحالف الملك مع الحركة الوطنية :
إن الملك محمد الخامس رحمه الله باعتباره المؤتمن على السيادة الوطنية، سيأخذ قيادة المعركة من خلال تجميع كل القوى الحية في الأمة ومن كل الاتجاهات، وهكذا كانت تعقد جلسات تعمل تحت رئاسة الملك في وقت متأخر من الليل كل أسبوع تقريبا، وكان الاجتماع يتم في مخبأ خاص داخل القصر الملكي كان قد بني كملجأ من الغارات الجوية الألمانية، وقد شهد هذا المخبأ ـ كما يقول الأستاذ : “عبد الكريم غلاب”حلفا وقع بين الملك والنخبة الوطنية من أبناء الشعب، ولم تبدأ المحادثات إلا بعد أن أقسم الطرفان أمام المصحف على الإخلاص في العمل وكتمان السر وخدمة الوطن، وقد اتفق الوطنيون مع الملك على أن يستشيرهم في كل عمل يقوم به أو تقترحه الإقامة العامة عليه، ولما استقر الأمر على المطالبة بالاستقلال عرضت عليه اللجنة المكلفة بالاتصال الفكرة فاستحسنها وقال: إن الوقت قد حان للمطالبة بالاستقلال على أساس أن يكون ذلك في ظروف من الهدوء، ثم عرض عليه نص الوثيقة فوافق عليها كما وافق على رسالة التقديم، وأعطى بعض الأفكار التي تضمنتها الرسالة، واتفق بعد ذلك معهم على الطريقة واليوم والساعة التي تقدم فيها عريضة الإستقلال واختار نفس اليوم الذي يستقبل المستشار الفرنسي وكان ذلك اليوم هو 11 يناير 1944.
“من المومنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصديقين بصدقهم” [الاَحزاب، الآية 23-24].
وفي منتصف النهار تقريبا كانت المرحلة الرسمية قد أنجزت كما كان متوقعا وقد انتشر الخبر بسرعة البرق، ففي مدن الرباط وسلا والقنيطرة شرع الناس في تبادل التهاني والتبريكات، وأصبح الحماس يغمر المشاعر… وبعد الظهر كان نص البيان يقرأ بصوت مرتفع في الساحات العمومية وفي الأسواق وفي المساجد في فاس وفي مكناس ومراكش والدار البيضاء وتطوان وطنجة، وفي الأطلس وسوس، وفي المغرب الشرقي كان الاستقبال الشعبي جماهيريا، فرح وهتافات وتصفيقات ودعوات؛ لأن المطالبة بالاستقلال الوطني كانت تأكيدا لرغبة دفينة في قلوب مجموع الشعب، وكان الحدث الحقيقي هو تولي جلالة الملك محمد الخامس رحمه اللّه قيادة الحركة الوطنية، فكان عقد الثقة بين الملك والشعب هو الحافز على تحدي السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فكان ذلك ضمانا للانتصار على القوى الاستعمارية واستعبادها للشعب..
إن هذا التحالف بين الملك والشعب والذي خاض مرحلة الكفاح الوطني من أجل الإستقلال والوحدة هو الذي ينبغي أن يستمر ويقوى في مرحلة ما بعد الاستقلال سيما في هذه الظروف التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية، والتي تفرض على الأمة وعلى كل المؤسسات التعلق بهذا الحلف المقدس-التحالف بين الملك والشعب من أجل دعم مسيرة التنمية البشرية ضمانا لصون وحدة واستقلال المغرب…
أرسل تعليق