في الأخلاق الاجتماعية (5)
قال الله تقدست أسماؤه: “إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُومِنُوا وَتَتَّقُوا يُوتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ اَضْغَانَكُمْ هَاَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ” [محمد، 37-39].
ثمة قيمة أخلاقية عظيمة الشأن تتبوأ مركز السلم المعياري الأخلاقي القرآني تسمى المواساة أو الاهتمام بالآخرين، وتعني أن تحس بالناس وتتعاطف معهم، وأن تشعر بوجودهم وهمومهم ومعاناتهم وحاجاتهم. وهذا الإحساس والتعاطف يتولد لدى المسلم بدافع إنسانيته العالية أولا، وبداعي رغبته فيما عند الله من المثوبة ثانيا. كما قال جل وعلا: “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وأَسِيْراً اِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً” [الاِنسان، 9].
وفي الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجة أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين“[1]، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا يُقِرُّهَا عِنْدَهُمْ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ فَإِذَا مَلَّوُهُمْ نَقَلَهَا مِنْ عِنْدِهِمْ إِلَى غَيْرِهِمْ“[2]. وعَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ أَدْخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُرُورًا لَمْ يَرْضَ لَهُ اللَّهُ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ“[3]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “أيما مسلم كسا مسلما ثوبا كان في حفظ الله ما بقيت عليه منه رقعة“[4].
وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعِينَ حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْهُ سَبْعِينَ سَيِّئَةً مِنْ حِينِ يَخْرُجُ فِيهَا؛ فَإِنْ قُضِيَتِ الْحَاجَةُ عَلَى يَدِهِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَإِنْ مَاتَ بَيْنَ ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ”[5]. وعن أبي سعيد الخدري قال: “بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له قال فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل“[6].
فهذه الأحاديث كلها حث على فضيلة الإحساس بهموم الناس واحتياجاتهم، والندب إلى تقديم المساعدة لهم، ورفع الضرر عنهم، وفيها تنويه بالمشاعر النبيلة والنزعة الإنسانية المرهفة التي هي عنوان شخصية المسلم والمسلمة وطريقتهما في الحياة. ولعلكم تذكرون كلمة خديجة رضي الله عنها حين خشي رسول الله صلى الله عليه على نفسه، فقالت له: “والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق..”[7].
وعن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه“[8].
لا إله إلا الله، هذا غيض من فيض الأدب النبوي فيما نحن بصدده، يا له من توجيه نبوي بليغ إلى أهمية مراعاة مشاعر الآخرين حتى ولو كان المرء في محراب العبادة الأقدس.. أن يراعي الإمام وجماعة المسلمين حالة معينة لواحد منهم، بحيث يتغير الوضع في المسجد مع الحالة الطارئة على أحد الحاضرين، وقد يكون صبيا، من أجل إسعاده ورفع الحرج عنه..
لمذا غابت هذه الفضيلة أيها الإخوة في سلوكنا وعلاقاتنا؟ بل أكثر من ذلك، لماذا نتصور أن الدين والإيمان والاستقامة لا علاقة لها بمراعاة مشاعر الناس والتعاطف معهم؟
إن المغزى العميق من تأكيد هذه القيمة، أن يدرك الناس بأن أخوة الإسلام روح قائمة على حقائق ملموسة، وليست علاقة شكلية، أو صورية لا أثر لها في الواقع العملي، وأن لها حقوقا ثابتة في الذمة علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
إنه شيء عظيم أن تكون ثقتنا بالله وثيقة وكبيرة، وإيماننا بمعيته وتأييده جازما وقاطعا، وشيء عظيم كذلك أن يكون الواحد منا في هذا العالم مظنة لمساندة إخوانه المكدودين في الشدائد والطوارئ، فقد يكون للأم عدة أولاد، ولكنّ واحدا منهم هو من يخطر ببالها عندما تُلِمّ بها شدة، كأن تقضي معه بقية عمرها في بيته.. أو حينما تمرض تبادر بالاتصال به.
وقد يكون للمرأة عدد من الإخوة، لكن واحدا منهم فقط هو الذي تعتقد أنه سيقدم لها يد المساعدة حين تقع في ورطة أو مشكلة.
وقد يكون للواحد منا أصدقاء كثر، لكن واحدا فقط هو الذي يحضر بالبال حين تَدلهمّ السبل، وتتغير الأحوال..
وأن يكون الإنسان سندا لإخوانه وأقربائه وللناس أجمعين؛ فذلك يعني أن يكون قمة في التضحية، وقمة في العطاء، وقمة في البذل، وقمة في البرور بوالديه، وقمة في صلة الرحم والأقرباء، وقمة في إغاثة الملهوف ونجدة الأصدقاء ..
وهناك دائما قمة أعلى من قمة، وإن من أهل المعروف والفضل من يجتهد هذه الأيام في تجييش حملات المواساة والتضامن مع ضعفة الناس وذوي الاحتياجات الصعبة، وبعضهم ينفق نفقة راتبةفي آخر الشهر على أسرة كاملة عظها الفقر بنابه؛ إنه سند لكل نفس من أبناء هذه الأسرة، وإن كل واحد منهم يعتقد أنه سيكون بخير ما دام فلان الذي يزورهم ويتفقد أحوالهم بخير؛ فكلّ عرق، وكل شعرة، وكل خَلية فيهم تضْرَع بدعوات صالحة لهذا الإنسان النبيل.. هنيئا ثم هنيئا لمن تعلق عليه الآمال العراض لإسعاف ذوي الحاجات، وهنيئا ثم هنيئا لمن يعتقد الكثيرون أنهم في أمان ما دام فلان أو فلانة على قيد الحياة، فهذه أعظم منقبة، وأصدق شهادة على أن حياته ليست كحياة الآخرين: “وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ” [البقرة، 95].
———————————-
1. صححه الألباني.
2. المعجم الأوسط للطبراني، بَابُ الْمِيمِ مَنِ اسْمُهُ مُوسَى، رقم الحديث: 8572.
3. المعجم الصغير للطبراني، بَابُ الْمِيمِ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، رقم الحديث: 911.
4. المعجم الكبير، للطبراني، باب العين من اسمه عبد الله أحاديث عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وما أسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حصين عن ابن عباس، رقم الحديث: 12591.
5. الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي المعافى، المجلس الثامن والسبعون، من مشى في حاجة أخيه المسلم، رقم الحديث: 611.
6. صحيح مسلم، كتاب اللقطة، باب استحباب المؤاساة بفضول المال، رقم الحديث: 1728.
7. صحيح البخاري، كتاب التعبير، رقم الحديث: 2561.
8. صحيح البخاري، أبواب صلاة الجماعة والإمامة، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، رقم الحديث: 675.
-
بسم الله الرحمن الرحيم
شكر الله لأستاذنا الفاضل حرصه على اختيار مواضيع حية ومتجددة وجزاه عنا كل خير وأدام الله قلمه نورا وضياءا لنا
في مواضيع مرتبطة بحياة الأمة
-
فالتعاون على الخير معناه: أن يعين الناس بعضهم بعضاً على البر والتقوى فالبر: فعل الخير، والتقوى: اتقاء الشر..
قال الله تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى" [المائدة، 2] -
جازاك الله خيرا
-
بسم الله الرحمن الرحيم،
نشكرك أستاذنا الكريم على هذا الموضوع الأخلاقي المميز يقول الله عز وجل في محكم كتابه العزيز بعد اعود بالله من الشيطان الرجيم: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (المائدة 3)
انطلاقا من هذه الأية يتبين لنا بأن الإسلام حث الإنسان على فضيلة التعاون والتكافل وأضفى على هذه المعاملة صبغة إيمانية تعبدية وأخوية، تنفي عن الإنسان نوازع الأنانية المحكومة بالمصالح الفردية أو الجماعية الضيقة، وتجعله صفة نبيلة لمجتمع التآخي والتماسك والتآزر، في كل مجالات الحياة، المادية والروحية، والخلقية والعلمية والعملية..
والسؤال الذي يمكن ان اطرحه لفضيلة الذكتور عبد الحميد عشاق في هذا المنبر العلمي: ماهي الأسباب التي جعلت الإنسان في هذا العصر بعيدا كل البعد عن هذه القيم التربوية الحكيمة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟ -
نشكرك أستاذنا الكريم على طرحك لهذا الموضوع، فالملاحظ أن الأمة في هذا العصر في حاجة ماسة الى مثل هذه الأخلاق الإجتماعية النبيلة
جزاك الله خيرا
التعليقات