في الأخلاق الاجتماعية (3)
قال الله تقدست أسماؤه: “لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” [اَل عمران، 91-92]، وقال جل شأنه: “وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ” [البقرة، 271]، وقال: “وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ” [الاَنفال، 61].
لا أعرف أمرا تكرر في القرآن، وشدد عليه القرآن، وألحَّ فيه كالأمر بالإنفاق في سبيل الله.
ويمكن القول: إن الأمر بالإنفاق في القرآن الكريم يفوق الأمر بالصلاة، ويفوق الأمر بالجهاد، ويفوق الأمر بأي عبادة شرعية معلومة. فلا تكاد تتلو بضع آيات من كتاب الله تعالى إلا وتجد عقبها حثا ظاهرا على أن تنفق في سبيل الله، ولا تتلو آية تدعو إلى الصلاة إلا وتجد آية بجوارها تدعو إلى الصدقة والزكاة، ولا تتلو آية تدعو إلى الإيمان والجهاد إلا وتجد آية بعدها تدعو إلى الإنفاق في سبيل الله. كما قال جلّ شأنه: “يَا أَيُّهَا الَذِينَ ءَامَنُوا هَلْ اَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ اَلِيمٍ” [الصف، 10]، وقال: “إِنَّمَا الْمُومِنُونَ الَذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ” [الحجرات، 15]، وقال: “إِنَّمَا الْمُومِنُونَ الَذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ ءَاياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَذِينَ يُومِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” [الاَنفال، 2-3].
وتأملوا معي هذه الآية العظيمة التي صدرت بها هذا المقال، “لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ” [اَل عمران، 91]، لن تنالوا درجة البر.. لن يقال إنك من الأبرار عند الله.. لن تنال هذه الدرجة حتى تنفق من كرائم أموالك وأطيب ممتلكاتك، حتى تنفق ونفسك طيبة راضية بما تنفق.
وحين نزلت هذه الآية تبارى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم طوال حياته الشريفة في بلوغ هذه الدرجة، فجاء أبو بكر رضي الله عنه بماله كله فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له يا أبا بكر ماذا تركت لنفسك وأهلك؟ فقال: تركت لهم الله ورسوله[1]، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ قال: نعم، مثل ما جئت به”[2]. وجاء عثمان رضي الله عنه بمال كثير جدّا، فقال رسول الله: “اللهم ارض عن عثمان؛ فإني راض عنه”[3]، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ مَالا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاءُ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةً الْمَسْجِدَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: “لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ”، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: “لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ”، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ؛ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “بَخٍ ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ وَرَائِجٌ..”[4]. انظروا كيف يكون التفاعل مع أوامر القرآن، وأحكام القرآن.. قال إن الله تعالى يقول: “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون” فبادر ونفّذ، وهذه الطّبيعة التنفيذية أو المبادرة للاستجابة للأمر من خصائص الرعيل الأول، ومن المقومات الأساسية التي كانت تقوم عليها صلته بالدّين إيماناً وفهماً وممارسةً، وهذا القوام هو سر النظام الثقافي والاجتماعي النوعي الخاص الذي امتازت به هذه الأمة في تجربتها الحضارية الأولى. ومن المؤسف أن هذا القوامفقدناه منذ زمن بعيد، واستعضنا عنه بشهوة الكلام، والقال والقيل، ووَهَم الأماني. “لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً” [النساء، 122].
ولاشك عندي أن المنطلق والباعث على الإنفاق في سبيل الله هو الإيمان.. إذا خالط الإيمان بشاشة قلبك، وخالط حلاوته شغافه، فستصنع لا محالة مثل ما صنع أبو بكر وعمر وعثمان وأبو طلحة رضي الله عنهم أجمعين. فالإيمان الحق هو مخزون الطاقة الأثرى لمشاريع الخير، ومبادرات البذل والعطاء. والسؤال اليوم: هل يتمثّل سلوكنا المجتمعي هذا المبدأ العظيم من مبادئ الإسلام؟ هل نمثّل الإسلامَ في هذا الركن الركين من أوامره ومبادئه وقيمه؟
كلاّ! نحن الآن أنانيات هابطة، وفرق وطوائف متنافرة، وقلوب شتّى.. والإنسان عندنا لا يعرف إلا حظوظه وشهوته؛ يأكل وحده، ويعيش وحده، ويمضي في أموره وحده.. لقد أصبنا أيها الأفاضل بضعف في الصميم، وهذا الضعف الذي أصبنا به طال عليه الأمد، ورضينا به، وسوّغنا لأنفسنا ما نحن فيه، وقلنا هذا هو الإسلام، وهذا هو الدّين؛ الدين الذي يمرق من الجماعة وقيمها المشتركة، الدين الذي لا يبالي بضَعَفَة النّاس، ولا يلتفت إلى مصالح المجتمع وحاجاته، ولا يهتم بشؤون الأمة، الدّين الذي لا يسهم في صناعة مشاريع الخير، ولا في إطلاق مبادرات المواساة والإسعاف والتضامن.. فاستطاع كل واحد منا أن يقنع نفسَه بهذا الدّين الذي ما أنزل الله به من سلطان، ومع ذلك يعتقد أنه مؤمن، وأنه على شيء، وأن هذه قسمة الله، وأن الله لا يكلفنا مالا نطيق.. والحقيقة ليست كذلك حين تصدع مثل هذه الآيات في وجوهنا، وحين نسمع أحاديث كثيرة تحض على الصدقة والإنفاق والزكاة والوقف والهبة والتعاون والقرض والإسعاف والتضامن والمواساة، وأن الصّدقة تدفع البلاء، وتوجب زيادة الرزق، وتدفع ميتة السوء، وأنها أفضل استثمار للمال، وأفضل استثمار للعُمْر القصير الذي لابد أن ينتهي إلى أجل محتوم.
والإنفاق في سبيل الله الذي أتحدث عنه هنا ليس توزيع دريهمات بين فَينَة وأخرى أمام أبواب المساجد، ولكنه تيار إيماني واجتماعي كبير، وروح عامة تسكن السلوك اليومي للأمة وعلاقاتها ومرافقها الخاصة والعامة، إنها روح تستطيع أن توفر ميزانيات وتمويلات أكبر من ميزانية الدول والحكومات، وتستطيع أن تُعدّ بفضل هذا النهر الدافق من الأموال منجزات التنمية الاجتماعية، ومشاريع الخير، وبرامج الإسعاف ومبادراته في شتى المجالات. يروى أن رجلا اسمه خير الدين أفندي تاقت نفسه إلى بناء مسجد لله، ولكن الرجل كان لا يملك المال الكافي، فعزم على أنيوفر المال مهما كلفه ذلك من وقت وجهد، كان خير الدين يمشي في الأسواق، وإذا تاقت نفسه لشراء فاكهة أو لحم أو حاجة يقول في نفسه باللغة التركية “صانكي يدم” يعني كأني أكلت، ثم يضع ثمن تلك الفاكهة أو اللحم في صندوق له حتى مضت الأشهر والسنوات؛ وهو يكف نفسه عن لذائذ الطعام والشراب، ويكتفي بالقليل حتى تحصل لديه مبلغ من المال، استطاع أن يبني به مسجدا رائعا، صغيرا في مبناه، ولكنه كبير في معناه ورمزه، وهو يقع اليوم في منطقة الفاتح بإسطمبول، اسمه جامع “صانكي يدم” (كأنني أكلت)، وفي التملّي بطلعته البهية، وجماله المشرق غناء عن كثير من الكلام، وحافز للتفكير في كيفية تجديد واستئناف حركة الإنفاق في سبيل الله التي كانت قوام النظام الاجتماعي لهذه الأمة، وسر تألقها الحضاري في العلوم والمعارف والصنائع المختلفة.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا لفعل الخير، وأن يعيننا عليه، والسلام.
————————————-
1. أخرجه أبو داود: في كتاب الزكاة، “باب في الرخصة في ذلك، ح: “1678”، والترمذي في كتاب: المناقب، “باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما”، ح: “2675”.
2. تفسير السمرقندي، ج: 2 ص77، والتفسير الكبير للرازي، ج: 16 ص: 145.
3. البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، “سنة ثمان من الهجرة النبوية، غزوة تبوك”، ص: 148.
4. التبصرة لابن الجوزي، “الْمَجْلِسُ الرَّابِعُ فِي ذِكْرِ الزَّكَاةِ”، ح: 229.
-
فهذه صورة نمودجية من النفقة ينبغي لكل مسلم أن يتخلق بها ويطبقها في حياته وفي تصرفاته اليومية يقول الله عز وجل في حق الكرماء: "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" [البقرة: 261]
جازاك الله خيرا استاذ -
جازاك الله خيرا على هذا الموضوع القيم
-
كم هو جميل أن يكون أسلافنا بهذا النبل الذي يجعلنا نتطلع إليهم بإعجاب وتقدير
أستاذ عبد الحميد ألا يوجد في مغربنا الحبيب مثل هذا الأنموذج التركي؟؟ -
السلام عليكم قرأت هذه الكلمات وأحببت أن أشرك بها أوفياء هذا عمود:
"هذه قصة نموذجية لرجل صالح فقير كان يرتاد مسجداً على شاطئ بحر مرمرة (بإسلام بول) وعز عليه وهو الفقير جداً أن يخلو هذا الشاطئ الممتد دون مسجد لمجرد أن سكانه من الأثرياء، ففكر في هدوء في أمر قادته إليه عناية الله بنجاح. كان يعيش في منطقة الفاتح الفقيرة واسمه (خير الدين كجي أفندي). وكان (خير الدين) عندما تتوق نفسه لشراء فاكهة أو لحم أو حلوى يقول في نفسه: (سأفترض أنني أكلته)، ثم يضع ثمن تلك الفاكهة أو اللحم أو الحلوى في صندوق عنده.. ثم مضت الأشهر والسنوات وهو على هذا الحال، يمنع نفسه عن كثير من لذائذ الأكل.. وبالتالي تزداد النقود في صندوقه الكبير شيئاً فشيئاً، حتى استطاع ذات يوم أن يشترى الأرض الصالحة للبناء، ثم أخذ في بناء المسجد وحده دون طلب معونة من أحد.. ولمّا كان أهل المكان يعرفون فقر هذا الشخص، فقد فوجئوا بفعله هذا، ولمّا عرفوا قصته انبهروا بها، وأطلقوا على الجامع الذي تم بناؤه.. اسم (جامع كأنني أكلته). ومازال الجامع معروفاً بالتركية (جامع صانكي يدم). أي جامع (افترض أنني أكلت).. وهو دلالة عظيمة على ما يمكن أن يفعله الإنسان إذا تجنّب التبذير وحكم نفسه، وضبط سلوكيّاته، واتقى الله في المال، وعرف أن الله سيسأله عن مصدره وصور إنفاقه يوم القيامة..! وقد بقى سلوك هذا الرجل الورع الفقير مثلاً يُضرب لما يمكن أن يفعله تجنب التبذير والإسراف.. وقد أشاد المفكر والإمام التركي (بديع الزمان سعيد النورسي) بهذا السلوك، وكان درس (كأنني أكلته) المسجد الحديث الذي نشاهده من بحر مرمرة يخاطب كل المسلمين قائلاً لهم: "كلما نادتكم اللذائذ.. ينبغي الإجابة بـ (كأنني أكلت) فالذي جَعل هذا دستورا له (يقصد خير الدين صاحب القصة)، كان بوسعه أن يأكل مسجدا سُمى باسم (كأنني أكلت) فلم يأكله! وهو درس في الاقتصاد والزهد وقوّة الإرادة وتقوى الله، يجب أن يعيه كل المسلمين"… -
الإيمان.. قوة ربانية داخل قلب العبد المومن ..
هذه القوة تدفعه وبإلحاح إلى إثبات ما يؤمن به حقيقة !
وذلك لا يتحقق بالأماني بل بدفع المهر
ولنا في رسول الله إسوة حسنة
وكما قيل كذلك: مهرنا غال لمن يخطبنا
فهلموا يا أهل الإيمان والتقوى لإثبات إخلاصكم -
عجيب أمر هذا المومن الذي يترك شهواته من أجل مرضاة ربه..
أن تنفقوا مما تحبون..
قالها الحبيب صلى الله عليه وسلم..
ولكن لا يعييها إلا قلب متعلق بالحق سبحانه وتعالى..
قلب مومن جسده في الأرض مع الخلق..
وقلبه يحوم في ملكوت الحق.. -
السلام عليكم
قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. وعن خزيم بن فاتك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له سبعمائة ضعف". وعن أبي مسعود الأنصاري – رضي الله عنه – قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة".
التعليقات