فقه الموازنات الشرعية جسر واصل بين الفقيه ومجتمعه
لابد من تحديد الطريق الذي يجب على الفقيه أن يتقيد به في استخراج الأحكام من أدلتها التفصيلية؛ لأن كلمة فقه حينما تلفظ يتبين منها الفهم العميق الموصل إلى معرفة الأقوال والأفعال، لكل قضية من القضايا التي تجابه المشتغل بالفقه، مثل قوله تعالى: “فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا” [سورة النساء/ الآية: 77]. وقوله -صلى الله عليه وسلم- (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين) [1] .
والفقه ينقسم إلى قسمين: عبادات ومعاملات، فالعبادات فقهها يهتم بأمور الآخرة، المقصود منها التقرب إلى الله تعالى مثل: الصلاة والزكاة والصيام والحج والنذر والجهاد في سبيل الله، وأما المعاملات فهي التي تراعي تصرفات الإنسان مما يتوصل به إلى تحقيق المصالح الدنيوية، بين الإنسان وأخيه الإنسان، وفيما يتعلق بالفرد والمجتمع في التجارة والشركات والمصارف والنفع العاجل في هذه الحياة، بخلاف فقه العبادات فهو مذخور ثوابه إلى يوم القيامة وإن شئت فقل إن الفقه الإسلامي شرع من أجل تنظيم شؤون الدين والدنيا.
الفقه الإسلامي جامع بين الدين والدنيا
والفقه الذي يرسي القواعد الأخلاقية والدينية على أسس تسمو بالإنسانية حتى توضع الأشياء في نصابها، لتقديس كرامة الإنسان، ومسايرة التطور الحضاري زمانا ومكانا؛ لأنه يعتمد كلام الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنسق متجدد ينتصف للمظلوم من الظالم.
وقد تواجهه وقائع وأحداث؛ فهنا لابد أن يبحث في القرآن والسنة مع التأسي بالسلف الصالح في الاجتهاد بدون تقصير تستعمل فيه الفطنة والذكاء حتى يتمكن المشتغل بالفقه من مفهوم القياس الفقهي، وإلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لوجود علة جامعة بينهما مشتركة.
وهو بمثابة البوصلة للربان في ظلمات البحار، بل هو السلاح الذي يحمي الحق؛ لأنه حيث يكون فقه يكون حتما منهاج للاستنباط مع استخراج علل الأقيسة وضبطها والتفريع عليها وتطبيقها على الفروع المتعددة المختلفة.
والفقيه ينبغي أن يكون ذا ملاحظة دقيقة وفهم؛ لأن الفهم عبارة عن جودة الذهن وهذا ما يهيئه لاقتناص كل ما يطرح أمامه من المسائل والمطالب، وفقهه مخصوص بعلم حاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية، بالنظر والاستدلال [2].
كيف تعود للفقه قوته؟
الدارس المتأمل للمذاهب الفقهية يصاب بذهول حينما يرى أن الأقوال المنقولة جلها ناطقة بالتقليد للأئمة مما يختلط فيه الحق بالباطل، وكثيرا ما تكون هذه الأقوال الفقهية مجانبة للصواب؛ لأن الأتباع كثيرا ما يأخذون بأطراف أقوال الفقهاء، ومن الخير أن يتركوا التعصب جانبا حتى تعود للفقه قوته، ولا يرمى من طرف الخصوم بالجمود والتحجر وعدم مرونته ومسايرته لمستجدات العصر.
ولا بأس من الرجوع إلى زمن الخلافة الراشدة، يوم جاءت امرأة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقالت: (إن زوجي طلقني فأرسل سيدنا عمر إلى زوجها وقال له: إن زوجتك تدعي أنك طلقتها، فقال الزوج: يا أمير المؤمنين اسمع مني إنها طلبت مني أن أطلق عليها اسما ترضاه لنفسها فقلت: إنك الطيبة فقالت: لا. فقلت لها: ما تريدين أن أدعوك؟ قالت: سمني خلية طالق. فقلت: أنت خلية طالق. فما كان من عمر -رضي الله عنه- أن أوجعها بالدرة فقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها) [3].
وقد عقب الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد بقوله: (هذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان، وإن تلفظ بصريح الطلاق) [4]؛ لأنه تحايل من الزوجة يخالف نية الزوج والله -عز وجل- يقول: “وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما” [سورة الاحزاب/ الآية: 5]. ومن خلال هذه النازلة يعرف الفقيه دوره جيدا ويعرف طبيعة الوسائل التي يستخدمها العامة حتى يفقه ما وراء أسرار الرموز والألفاظ ويوظفها التوظيف الأمثل، وحتى يأخذ الناس من فقهه وفتاويه الدائرة بين الأوامر والنواهي والتحريم والإباحة، وهو بجهوده هذه النابهة يشق قصب السبق دربا من العلم والفقه مضيئا للأجيال بعد الأجيال لتكون لهم القدرة لسبر أغوار هذا المحيط من الفقه.
وها هو العالم الجليل تاج الدين الفزاني الفقيه تأسف يوم موت ابن مالك النحوي فقيل له: (أكان مثلك في الفقه حتى تتأسف لفراقه فقال قولته المشهورة: “والله ما أنصفه القوم كان مثل الشافعي لغة وفقها).
الفقيه هو الذي يوظف فقهه لكل نشاط نافع
الفقه الإسلامي هو الذي يحبذ كل نشاط عملي نافع يغني أصحابه عن المسألة، وذل الاستخذاء والاستجداء بقوة تؤثر في الثقافات القانونية بالاتصال والتواصل والانفتاح بعيدا عن الغموض والتقوقع ممتازا بالخطاب النابه الذي يراعي الواقع المعاش في التقديم والتأخير وكشف الغمة، وإشاعة السلام ونشر الفضيلة والنهوض بالمجتمع في مجالاته كافة، بل هو صاحب الفقه المعين للناس في الشدائد، وبما يحفظ للشريعة أحكامها والخروج بها من دائرة التخلف المزري، وتكريس وقته لإثبات الحق وإبطال الباطل، والموازنة بين المصالح الأجدر بالرعاية ويرسم للبشرية طريق السعادة.
وكل من يحصر الفقه في جانب واحد فهو ظالم للفقه أولا وللفقهاء ثانية، بل الفقه ليس عبارة عن فكر فردي كما يتوهمه العلمانيون، وإنما هو جوهر القرآن الكريم والسنة الغراء، ونتاج أمة أمينة عفيفة قادر عملاق يوجه إلى الخير لا كما يتوهم الجاهلون كسيحا يحبو ولا قزما يصفعه من شاء هو شموخ اكتسب يناعته ونضجه من القرآن الكريم وهدي النبي عليه الصلاة والسلام والفقيه الحق هو الذي يملك فكرا يتعلق بفقه الموازنات الشرعية، والموازنة بين المصالح والمصالح والمفاسد والمصالح لذلك قال الإمام الشاطبي
رحمه الله: (الفقيه قائم في الأمة مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-)
الفقه هو الذي يراعي جهات التغيير وواقع الناس المعيشي مع مراعاة خطوط لا ينبغي أن يتخطاها حتى يكون مبرأ من الأهواء والأغراض مع العمل على معرفة واجهات التغيير الأربع المتعارف عليها لدى الفقهاء من الأشخاص والحالة التي عليها والمكان والزمان.
فقه الموازنات يضع الحقائق فوق مستوى الشك
لذلك نجد الفقه الإسلامي يخاطب الحاضر ويقعد الأسس للمستقبل؛ لأنه شمول يجمع بين الثابت والمتغير وهو بتوهجه يبدو بادهة أو كالبادهة يضع الأشياء فوق مستوى العبث وهو الضابط لكوابح الجنون والنوازع الهابطة، وينشر أجنحته على أرض نظيفة وبسرعة نافذة إلى القلوب والعقول وربط الأسباب بالنتائج ويشق طريقه إلى الأمام بين جهل الأصدقاء وافتراء الأعداء.
وأخيرا ففقه الموازنات هو طوق النجاة الذي يحفظ للمسلمين هويتهم والخروج من الأزمة والوسيلة للفهم الصحيح لمدارج الحياة وهذا من الله العون وبه التوفيق.
———-
1. صحيح البخاري الجزء الثاني.
2. الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام ج 1 ص 22.
3. أخرجه القاضي وكيع في مصنفه.
4. ابن قيم، زاد المعاد ج5 ص187.
5. الشاطبي، الموافقات ج3، ص: 174.
الوسوم
الموازنات الشرعية-
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
شكرا للأستاذ أحمد ديدي على موضوعه القيم والجدير بالاهتمام (فقه الموازنات الشرعية جسر واصل بين الفقيه ومجتمعه) والذي يفتح آفاقا علمية في بناء المجتمع السليم.
وشكرا لجهود الدكتور أحمد عبادي الذي أضاف حلة مشرقة لجريدة ميثاق الرابطة بدخولها العالم الرقمي، فلقد كان صديقا عزيزا للوالد رحمه الله الحاج محمد الخضر الريسوني، الذي كان من المؤسسين الفاعلين لهذه الجريدة أيام الشيخ محمد المكي الناصري رحمه الله (منبر الرابطة) وقبلها (الميثاق) مع مجموعة من الإخوة المشرفين.
ولا يجب نسيان جهودهم فعند الله لا تضيع الودائع مصطفى ودادي، ومحمد القاضي والأستاذ نبيل والأخت نجية والأخت سعاد والأخت حنان والأخ مبارك بارك الله في جهودهم جميعا ) ولقد كنت مشرفا حينها على صفحة الشباب (الصفحة الخامسة).
ولي مداخلة متواضعة بخصوص الموازنة بين أمور متعارضة والتوفيق فيها على أساس علمي راسخ
فكتاب الله العزيز حار فيه أرباب العلم والبيان فما كان قليله يغنيك عن كثيرة، وإعجازه مضمر ومكنون في ثنايا وبواطن اللفظ، فالله تعالى وهو العليم الخبير أحكم آياته وجعل كلماته نورا وألبسها من علمه وحكمته ثياب الجلالة وغشاها بنور الحكمة لتكون عظة ونبراسا للمتقين، وتبيانا لكل العوالم الخفية والدقيقة وإشارات باهرة في كل أصناف العلوم ومحركا للبواعث والهمم لترقى بالإنسان نحو أسمى الغايات، وأسلوب القرآن يتفوق عن كل تجريد مجازي ويختلف اختلافا بينا عن كل أصناف الكلام المعهود في حياة الناس، شامخ في معماره البياني وحسه المجازي وبعده التشبيهي ورصده الاستعاري وتهذيبه الكنائي، وهو يعلو ولا يعلى عليه، وهو ليس كسائر كلام البشر ولا أمراء البيان، وهو يشمل فصاحة خارقة في اللفظ وفصاحته المتجلية في تركيبة لفظه التي تسيل رقة وعذوبة وهي جذابة وموزونة، وهي الحق الصادع والنور الساطع؛ فان أوجزت كانت كافية وإن أكثرت كانت مذكرة وإن أمرت كانت ناصحة، وإن حكمت كانت عادلة، وإن أخبرت كانت صادقة.
وهي سراج تستضيء بها القلوب، وبحر العلوم الواسعة والعميقة وديوان الحكم وجوهر الكلم، وهي المبلغة التي لا تمل والمتجددة التي لا تبلى، وفيه دعوة للتأمل والتدبر ويحرك البواعث والهمم، وهناك إشارات واضحة دالة على هذه الحركية الدائبة والمسترسلة لترقى بالإنسان، ومحيطه المتجدد والمتفاعل لما هو أسمى.
وما يفعله القرآن من تأثير في النفوس جاوز ما تفعله الخوارق والمعجزات، وأحيانا يأتي القرآن مقدما لما يؤتي مؤخرا أو بالعكس لعلة بلاغية نفيسة وقد تجد اللفظ المشترك الواحد يحتمل معنيين كقوله تعالى: (ان الله وملائكته يصلون على النبي) فالصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، ومع ذلك استعمل اللفظ في المعنيين معا وقد تجد اللفظ يحمل معاني عدة كقوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس) فالسجود هنا مختلف بالنسبة لكل ما ذكرته الآية ويدل على عدة معاني في لفظة واحدة وهي السجود، وقد يحصل الاشتراك بسبب حرف من الحروف وآيات عديدة لا حصر لها، وبحر لا ساحل له، وتتجلى كلما تقدمت الدراسات والأبحاث .
والذي يدعو إلى التأمل هو كيف استنبط الصدر الأول من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم والذين فهموا بعمق سعة الدلالات والعمل على استمراريتها في نهج العلماء لاستخراج الأحكام، فالذي يسمع قول الله تعالى: (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) أو قوله تعالى (فإمساك بمعروف -
شكرا جزيلا على هذا الموضوع القيم، وجزاكم الله خيرا عنى خير الجزاء.
-
بسم الله الرحمان الرحيم
* – الفقه هو الفهم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي}، ويستعمل بمعنى الاستنباط والاستخراج، ولذا عرفه الاصطلاحيون بأنه معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
وهذا قصر للفظ على بعض معناه، فإن الفقه يشمل المعرفة الإسلامية كلها جملة، بل ويشمل الممارسة العملية للسلوك الإسلامي، ولذا جاء في حديث معاوية في الصحيحين: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ).
وتواردت نصوص السلف على أن الفقه يعني معرفة الشريعة جملة، وألحق بعضهم بذلك السلوك الشخصي، وكأن هذا من باب فقه القلوب، وأن المراد من المعرفة الشرعية الامتثال، فهو غايتها ومقصدها، وقد يكون هذا من باب الإلحاق والإتْباع، وليس من باب التعريف الموضوعي.
ولا ضير أن يقرن الفقه بما يدل على مقصود الباحث، فيقال: فقه الفروع، فقه الأصول، فقه الدعوة، فقه المصلحة، فقه الأولويات، فقه الموازنات، فقه النوازل، فقه الأزمة، فقه اللغة، فقه الحديث، فقه السنة، فقه التمكين، فقه الاستضعاف..
* – الموازنات جمع موازنة، مأخوذة من الوزن والميزان، وهي مفاعلة بين شيئين فأكثر، وكأن المكلف يكون متردداً بين أمور عدة، فيساعده هذا الفقه على حسن الاختيار، كالكفارات التخييرية، يقول الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، ويقول سبحانه: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).
* -وفقه الموازنات: هو العلم الذي يتمكن به المكلف من اختيار الواجب، أو الأولى.
قيمة البحث في الموضوع:
1. هذا الموضوع مدار الاجتهاد، وقطب رحاه، ولحتمه وسداه، بل ليس للاجتهاد وظيفة ومهمة سواه.
2. يحقق هذا الموضوع كمال الشريعة وشمولها لحياة الناس، ورعايتها لمصالحهم، وحفظها لحقوقهم، ومسايرتهم لمستجداتهم، وتغطيتها لحاجتهم.
3. أهمية هذا الموضوع، وعظم الحاجة إليه في كل زمان ومكان، وحال، ولاسيما في هذا العصر حيث زيادة المستجدات، وكثرة الوقائع المحدثات، وتداخل المصالح والمفاسد وتجاذبها في أكثر الأمور والوقائع، وحياة الناس، فنادراً جداً أن تتمحض مصلحة خالصة أو مفسدة خالصة؛ ولأن مدار الشرع والواقع على المصالح والمفاسد، فما من مسألة صغيرة أو كبيرة إلا وهي مبنية على المصالح والمفاسد.
4. رعاية العلماء لهذا الموضوع، وعنايتهم الفائقة به، فقد وضعوا له الضوابط، ورسموا المنهج وأسسوا القواعد، وبنوا عليه فتاواهم وأقضيتهم وأحكامهم، وسائر تصرفاتهم. غير أن ذلك في نصوص متفرقات، وجزئيات متشتتات، وليس في كتب وأبواب مجتمعات تضم جزئياته المتفرقات..
5. صعوبة هذا الموضوع في الجانب التطبيقي، ولذلك فهو يحتاج إلى علم راسخ، وملكة فقهية، ونظرة فاحصة، وشاملة، تتصف بالعمق والدقة؛ إذ هو موازنة بين أمور متعارضة، ونظر في جوانب متنوعة، وتعامل مع أحوال متداخلة، وتمييز بين أشياء متشابهة مجتمعة.
وفي الختام أتمنى من العلي القدير أن يبارك سعيكم وجهودكم
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
التعليقات