فقه التوقعات.. والحاجة إلى التفعيل
إن الإسلام منحه الله شريعة مميزة بالمرونة، لتكون مستجابة لقضايا الناس في كل زمان ومكان حاضرا ومستقبلا، كما أخذت بأيدي الناس منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا مع نزول قوله تعالى: “ثم جعلناك على شريعة من الاَمر فاتبعها ولا تتبع اَهواء الذين لا يعلمون”[سورة الجاثية/ الآية: 17]. شريعة أجابت عن كل مسألة، وأوجدت الحلول الشرعية لكل مشكلة، والمسلمون، اليوم، مطالبون بأن يخطوا بالفقه الإسلامي إلى الأمام، حتى يسابقوا الوقت ويستعدوا بفقه التوقعات للمستقبل، ويفاجئوه قبل أن يداهمهم، وأن يحيطوه بما يجب من وسائل التطور، وألا يبقوا جامدين على القديم يدورون في حلقات مفرغة، ولذلك يقول بدران أبو العينين بدران: (إن الشريعة صالحة للتطور والنمو) .
ولا يكون ذلك إلا بتجشم المشاق في الأخذ والتحصيل؛ لأنه كما قال جار الله الزمخشري رحمه الله: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا بعث بعثا للجهاد يبقي أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر؛ لأن الجدال بالحجة أعظم أثرا من الجلاد بالسيف) .
والفقه في الإسلام بالنسبة لدين الإسلام في حاجة ماسة أن يتحرك إلى الأمام نحو المستقبل ليكون الفهم والتفقه تقرير في واقع الناس والفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق.
شريعة الإسلام حكمة وفقه
والحكمة أخص من العلم بالشيء على حقيقته، وبما فيه من المنافع والفوائد الباعثة على العمل، فهي أن ينظر الناس إلى المستقبل بما يحتاج إليه علم النفس والأخلاق وأسرار الخلق وسنن الاجتماع حيث قال تعالى: “ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة” [سورة الاِِسراء/ الآية: 39].
والفقه في القرآن الكريم، هو الفقه الدقيق للحقائق الذي به يكون العلماء حكماء عاملين مثقفين ويكفي ذلك ما جاء في سورة الانعام: “ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة اَن يفقهوه” [الآية: 26]، وقوله سبحانه: “ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين” [سورة الانعام/الآية: 36]، وقوله تعالى: “وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الاَيات لقوم يفقهون” الآية: 99. وقوله سبحانه: “ليتفقهوا في الدين” [سورة التوبة/ الآية: 123].
وإذا ما انتقلنا إلى سورة التوبة نجد قوله تعالى: “رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون” [الآية: 88]، وقوله تعالى: “وما كان المومنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون” [الآية: 123].
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) .
ويكفي العاقل ما في هذه السور من تعريف شامل للفقه، وأنه هو الحكمة لا علم ظواهر الأحكام، من الطهارة والإجارة والبيع إلخ.
وفقه التوقعات، هو ما يوافق طبائع الناس ويماشي الرخص والعزائم؛ لأن الناس منهم المقصر والمشمر والمعتدل، فقه التوقعات يتلاءم مع أهل البادية في أريافهم، والحكماء والفلاسفة في جامعاتهم ومراكزهم الحضارية، وما بين ذلك من الطبقات، وفقه التوقعات يراعي تفاوت البشر في الفهم والعقل وضعف الهمم، وعلوها، كل يأخذ بما أداه إليه اجتهاده.
وفقه التوقعات من خلاله يجدد المسلمون الحضارة الإنسانية، وبه يعملون على رقيها، وإحياء العلوم الميتة وتهذيبها واستثمارها.
وفقه التوقعات يشير إلى ما أوجب الله به من حفظ المال، من الضياع والإسراف، والاقتصاد فيه، وذلك بالابتلاء والتجربة والاختبار بالنسبة لليتامى وأن لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد ظهور الرشد والصلاح والاستقامة في أعمالهم ومعاملاتهم، لئلا تضيع تلك الأموال فيما يضر أو فيما لا جدوى منه.
تنزيل فقه التوقعات
وحيث لا يخفى أن مستقبل الأمة، يتوقف على كيفية تنزيل فقه التوقعات على قضاياها الكبرى، مع العلم أن الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال والله تعالى يقول: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” [سورة البقرة/الآية: 142]، والرسول -صلى الله عليه وسلم- نموذج لتلك الوسطية، وهي انسجام متفق مع فقه التوقعات، ومع التوجه المتزن الذي ينبغي أن تسلكه الأمة في مستقبل أيامها، انسجاما واستجابة لمقاصد الشريعة، واستخدام فقه التوقعات يجعل الفرد في المجتمع يسير على منهج متكامل للتربية الإسلامية التي تأخذ في اعتبارها المنحى الإنساني المتكامل مع الاحتكام إلى الأحكام الشرعية، كما يؤكد على أهمية الزمن وعدم إضاعته.
فقه التوقعات والمستقبل
المسلمون يتطلعون إلى المستقبل، وهذا التطلع لابد وأن يكون مقرونا بالإيمان أولا، وبقاعدة فقهية ترسم معالم هذا المستقبل، لإدراك أهميته وجدوى الاستعداد له، والتخطيط لتفادي سلبياته وشروره، والاستفادة من إيجابياته والاستمتاع بخيرات معطياته، وحتى لا يتعرض هذا المستقبل لسوء تفسير معرفي وسلوكي من البعض، الذين يحاولون بتوجسات ما أنزل الله بها من سلطان، أن يشخصوا هذا المستقبل بإخراجه عن سياقه، بفهم مغلوط وقراءة ملتوية، تحتاج إلى فقه يزيل كل التباس، ومعرفة يدرك من خلالها الناس أن المستقبل في ظل التوقعات، ما هو إلا صناعة تستحضر فيها كل الوسائل والطاقات بعيدا عن كل رؤية مريضة سوداوية تجعلهم عاجزين عن القيام بأعمالهم، التي من أجلها أوجدهم الله على وجه الأرض.
فقه التوقعات جسر للتواصل الحضاري
إن جسور التواصل لا تخرج عن كونها عملية اتصالية، تحتاج إلى فقه واع بواقع الناس، يستمد أنواره من الكتاب والسنة، أو بمعنى آخر، هو الفقه الذي لا ينفي الآخر، وإنما يدعو إلى مد جسور بين الحضارات، وهو عملية جبارة، لا يقوم بها إلا من توفرت لديهم معرفة كاملة، تتجاوز مسألة ردود الفعل، وينطلق من قناعة راسخة وأصيلة، ودراسة موضوعية ممنهجة، تبعد المعرفة المغلوطة، بل وإن شئت فقل: إن فقه التوقعات يحتاج إلى معالجة وترميم، يراعي الظروف والمتغيرات، ويستجيب لتحديات المستقبل، وسط منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية.
واليوم، فالفقهاء في هذا الميدان الذي تتسع وظائفه، عليهم أن يرصدوا نتائج وتأثيرات أدوارهم كفاعلين وخبراء، أمام هذا الكم الهائل من الوظائف الاجتماعية، التي تقذف بها الحضارة الإنسانية، لحظة بعد لحظة، حتى لا يتعسر ضبطها وتوجيهها ويتأتى بذلك كشف مرايا الآخر، وأساليب التعامل معه بحكمة، ووضع مصطلحات جديدة، من فقه التوقعات لتذويب الفجوة الموجودة بين الفقهاء وواقع الناس.
فقه التوقعات حلقة مفقودة
واقع الحال يدل على أن هناك حلقة مفقودة تسمى فقه التوقعات، مع العلم أن هذا الفقه هو الدواء الناجع، ليحقق للقلوب المتألمة الشفاء بالفهم الصحيح لمقاصد الشريعة الإسلامية، به نحسن من أخلاقنا ومعاملاتنا اجتهادا وتفاعلا، ونعزّز الانتماء الحضاري للأمة الإسلامية، وإخراجها من الضيق إلى السعة، من الأسرة إلى الوطن، ومن الوطن إلى الأمة، ومن الأمة إلى الإنسانية، فإذا وفرنا هذه الحلقة المفقودة من فقه التوقعات نكون واكبنا توقعات المستقبل وأوجدنا أجهزة مناعة، تزيد من مناعة الأمة في رحلتها السائرة إلى الأمام في رحاب الأمكنة والأزمنة الهادفة.
القرآن الكريم وفقه التوقعات
الله -جل جلاله- رعاية للمشاعر والعواطف، مع رعاية المصالح والحاجات وحتى لا تقف العادات البالية والكبرياء الزائفة وحتى لا تخدش الكرامات، فالقرآن الكريم هو الضمان الأكيد في النهاية، الذي يلفت نظر الرجال الراغبين في الزواج بالنساء المطلقات والمتوفى عنهن بعد انقضاء العدة، بالتعريض بالخطبة أثناءها نجده سبحانه يقول: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو اَكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا اِلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم) [سورة البقرة/الآية: 233]. فهنا تتجلى حكمة الله؛ لأن المرأة ما تزال معلقة بذكرى لم تمت، ومرتبطة بما يكون في بطنها من حمل لم يتبين، أو حمل تبين، والعدة معلقة بوضعه، ولأن الحديث عن الخطبة والزواج لم يحن بعد موعدهما، وإنما أباح الإسلام الإشارة البعيدة التي لم تفهم من خلالها أن هذا الرجل يريدها شريكة حياة بزواج شرعي بعد انقضاء العدة.
أخرج البخاري في صحيحه عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أن التعريض كأن يقول أحدهم وددت لو أن الله يسر لي الزواج بامرأة صالحة).
وإذا تتبعنا القرآن الكريم نجد أن فقه التوقعات من ضمن الرسالة الإصلاحية التي أمر بالتحدث بها النبي عليه -الصلاة والسلام- وتبليغها، حيث نجده سبحانه قدم النهي عن قهر اليتيم ونهر السائل، قبل التحدث بنعمته تعالى وأنه سبحانه وضع في حظهما الفعل، ورضي لنفسه بالقول، يعني التحدث بنعمته: (فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث) [سورة الضحى/الآيات: 9-10-11]؛ إذ نرى في ترتيب هذه الآيات أن الله تعالى نبه رسوله الكريم، إلى أن إصلاح الجماعة يأتي في المنزلة الأولى، من الاعتبار والتقدير؛ لأن رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ندفع ذل الفاقدين وقهر اليتامى وحيرة السائلين.
فقه التوقعات مرهون بحسن عرضه
الإسلام الجامع الحاضن، لا يتأتى لأهله استيعاب الجميع إلا بحسن العرض والتقديم، والتركيز على دائرة المشترك الإنساني بشكل أفضل وأجدى، وهذا لا يتحقق إلا بتوفير المحددات الفقهية، بتوقعات مستقبلية تسع الجميع بدل التمادي على القطائع والفواصل، التي تزيد الواسع تضييقا وسدا للأبواب، وقطعا لوشائج الالتقاء والتواصل، والأمة، اليوم، في حاجة ماسة إلى بث الروح في هذه الترسانة من فقه العصور، مع صدق النية والتوكل على الله، لوصل الجذور ومد الجسور، وبفعل يغني عن المقال لإقامة صرح حضاري يقوم على ركائز فقه التوقعات يؤكد على عمق الارتباط بالهوية الإسلامية، وبعد إيجابي لا ينبغي تجاهله، وديناميكية جديدة للتواصل والبلاغ والتأثير.
وإن منهج الإصلاح والتنوير، منوط بفقه التوقعات يؤكد أن مبدأ الاستخلاف الذي يطرحه الإسلام يحتاج إلى ترسيخ مفهوم فقه التوقعات الصحيح، في بؤرة اهتمام الغيورين من أبناء وبنات الإسلام، باعتباره قطب الرحى يرفده العلم والعمل معا للتمكين للأمة في الأرض بتحقيق وعد الله سبحانه وتعالى بحفظ رسالة الإسلام الخالدة، وتبليغها إلى الناس أجمعين وصدق الله العظيم إذ يقول: (وأن ليس للاِنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى) [سورة النجم/الآيتان: 38-39].
القرآن يتحدث عن المستقبل
إن الأمل كبير أن نرى هذه الأجيال الصاعدة، والتي ستتسلم الأمانة من الأجيال الحالية، لتقدمها للأجيال القادمة؛ لأن القرآن الكريم يتحدث عن المستقبل، ويطالب بتدعيم كيان الأمة مثلما جاء في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) [سورة اَل عمران/الآية: 104].
———–
1. أنظر مقدمة تاريخ الفقه الإسلامي، نشر دار النهضة العربية.د.ت.ص:10.
تفسير الآية: 122 من سورة التوبة، الكشاف الجزء 2، نشر دار الكتاب العربي، طبعة2، 323.ص:1986 2.
3. رواه البخاري ومسلم وابن ماجة ورواه أبو يعلى وزاد فيه (ومن لم يفقه لم يبال به) ورواه الطبراني في الكبير ولفظه (سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: “يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)، (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [سورة فاطر/الآية: 28].
5. رواه البخاري عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما- تعليقا.
أرسل تعليق