فقه الاختلاف (1)
إن الحديث عن فقه الاختلاف حديث ذو شجون، فسيح الأرجاء، ممتد الجوانب، ويكفيني منه في هذا المقام، أن أبرز الأصول الكبرى، والقواعد الضرورية، التي تيسر الفهم العميق لموضوع الاختلاف، والارتقاء بالسلوك الفردي والجمعي إلى فضائه الرحب.
أتصور أن أول دعامات هذا الفقه، وأركانه، دعامة الاعتراف بالاختلاف والتنوع الثقافي والحضاري، ومعناه: أن يكون المرء على درجة من الاستعداد النفسي، والفكري، لاستيعاب الاختلاف، وتحييد أسباب الصراع والتوتر وسوء الفهم، ليتحول اختلاف الرأي والاجتهاد إلى نعمة، وليس إلى نقمة، وإلى إثراء، وليس إلى عداء.
وإن القرآن لطالما أكد حقيقة شرعية وكونية، تتجلى في أن الله جل وعلا، اقتضت مشيئته أن يخلق الناس مختلفين في أديانهم على نحو ما هم عليه في صورهم، وألسنتهم وآرائهم وألوانهم ولغاتهم، ومن ثم؛ فإن من يتوهم إمكان تنميط الناس وحملهم على موقف واحد، ونمط واحد فهو يخالف مقتضى المشيئة والحكمة.
وقد أومأ القرآن إلى ترك التطلع إلى رؤية الناس نمطا واحدا، ومذهبا واحدا، ونسخة واحدة، وعدم إكراههم على أن يكونوا كذلك، فقال تعالى: “ولو شاء ربك لأمن من في الاَرض كلهم جميعا اَفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين” [سورة يونس، الآية: 99]. وقال كذلك: “ولاَ يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم” [سورة هود، جزء من الآيتان: 118-119]. والآيات على هذا المعنى كثيرة ومتضافرة، وهي في الجملة تهدي الأمة إلى اعتبار التعدد، وقبول الاختلاف.
فعلى سبيل المثال: خص القرآن الكريم أهل الكتاب بالنصيب الأوفر من آياته، وتناول أخبارهم وأيامهم ومواقفهم على نحو نادر من الإنصاف والاحترام والعدل، فتحدث عن اليهود والنصارى ووقف عند معالم بارزة من حياتهم وتاريخهم وملتهم، ولما أراد أن يقرر حكما قيميا يتعلق بوجود الأمانة والخيانة فيهم، ذكر أن منهم أشخاصا على الغاية في الأمانة والنزاهة، وأن منهم آخرين لا يؤدون الأمانة إلا بإلحاح ومطالبة. فقال جل وعلا: “ومن اَهل الكتاب من اِن تامنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من اِن تامنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما” [سورة اَل عمران، جزء من الآية: 75].
وقال عنهم بعد ذكر كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق: “ليسوا سواء من اَهل الكتاب أُمة قائمة يتلون ءايات ِالله ءاناء اَليل وهم يسجدون يومنون بالله واليوم الآخر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واُولاَئك من الصالحين” [سورة اَل عمران، الآيتان: 113- 114].
وقال عن القسيسين والرهبان الذين ظلوا أوفياء لهدي عيسى عليه السلام: “ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا ءامنا فاكتبنا مع الشاهدين” [سورة المائدة، الآيتان: 82-83]، وهذه شهادة منيفة وتزكية عالية، لن يجد أهل الكتاب أرق وأبلغ منها تنويها وإنصافا وإكراما.
وثمة أصلان عظيمان في القرآن الكريم، ينطلق منهما دوما في النظر إلى المخالفين، والتعامل معهم أحدهما يتعلق بالمبدأ الدستوري الكلي الثابت، الذي لا يتغير لأي سبب من الأسباب وهو: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” [سورة البقرة، جزء من الآية: 256].
وهذه الآية دستور الإسلام، وكلية الشريعة؛ لأنها من كليات القرآن وأصوله وعقائده، ويُفهم من سياقها أن الدين نقيض الإكراه جملة وتفصيلا، فلا يجوز باسم الدين أو باسم الدعوة إلى الدين، أو التمكين للدين إكراه الناس على حكم من أحكامه حتى لو تعلق الأمر بالإيمان… ولا يجوز لأحد أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد، أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق تفكيره ونظره.
والثاني يتعلق بعموم السياسة والمعاملة وهو قوله: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون” [سورة الممتحة، الآيتان: 8-9]
وهذه الآية لعظمها وقوة دلالتها التشريعية، أفردها شيخ الإسلام الإمام تقي الدين المعروف بابن دقيق العيد برسالة لطيفة، ضمنها أصول الفقه الشرعي الخاص بمعاملة أهل الكتاب، بما لا تجده بهذا الإيجاز، والإحكام في تقييد سواه، قال رحمه الله تعالى:
اعلم أن الله تعالى منع من الـتودد لأهل الذمة، بدليل قوله تعالى: “يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم أن تومنوا بالله ربكم، إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل” [سورة الممتحنة، الآية:1]. فمنع الموالاة والتودد، وقال في الآية الأخرى: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبـروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين” [سورة الممتحنة، الآية: 8]
وقال في حق الفريق الآخر: “إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فاؤلئك هم الظالمون” [سورة الممتحنة، الآية: 9]
وقال صلى الله عليه وسلم: “استوصوا بأهل الذمة خيرا” وفي حديث آخر: “استوصوا بالقبط خيرا”. فلا بد من الجمع بين مقتضى هذه النصوص، وإن الإحسان بين أهل الذمة مطلوب، وإن التودد والموالاة إليهم منهي عنها، والبابان ملتبسان فلا بد من الفرق:
وهو أن عقد الذمة يوجب لهم علينا حقوقا؛ لأنهم في جوارنا وخفارتنا وذمة الله وذمة رسوله ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام وكذلك حكى ابن حزم في “مراتب الإجماع” له: “أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونهم، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم”.
فإن تسليمهم دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى في ذلك إجماع الأمة، فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال، صونا لمقتضاه إنه لعظيم، وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعين علينا أن نبرهم بكل أمر، لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى تعظيم شعائر الكفر، أو إلى مودات القلوب امتنع، وكان من قبيل ما نهي عنه في الآية وغيرها…
وأما ما أمر به من برِّهم من غير مودة باطنة بالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم وإكساء عريانهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال أذاهم مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم، لا خوفا وتعظيما، والرمز لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم، ودنياهم، وحفظ من غاب منهم، إذا تعرض أحد لأذيته وصون أموالهم وأعراضهم وعيالهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم بجميع حقوقهم، وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل، أن يفعله معه يجوز فعله على وجه العزة، لا على وجه التعظيم لهم والتحقير لأنفسنا.
وينبغي أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا، وتكذيب نبينا صلى الله عليه وسلم وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلونا، واستولوا على دمائنا وأموالنا.
وأنهم من أشد العصاة لربنا، ثم نقابلهم بعد ذلك بما تقدم، امتثالا لأمر ربنا تعالى وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم، لا محبة فيهم ولا تعظيما لهم ولا تعبيرا؛ بأن تلك الأمور التي نستحضرها في قلوبنا من صفاتهم الذميمة، كان الواجب ألا يعاملوا بمقتضاها، لكن عقد الذمة يمنعنا من ذلك، فنستحضره حتى يمنعنا من الود الباطن لهم المحرم علينا خاصة.
وبالجملة، فبرهم والإحسان إليهم مأمور به، وودهم وتوليهم حرام، قاعدتان إحداهما محرمة والأخرى مأمور بها، وقد أوضحنا الفرق بينهما بحسب الوقت.
وقد كان الإمام شهاب الدين القرافي رحمه الله أجرى البحث في الفرق بين هاتين القاعدتين من عشرين سنة، ووضعها بعد ذلك في كتابه المسمى “بالذخيرة” في مذهب عالم المدينة، وهو من الكتب العظيمة في مذهبه رضي الله عنه، وسنذكر هذا الفرق وما أشبهه مستوفى إن شاء الله تعالى في موضعه من شرحنا لكتاب الشيخ أبي عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى انتهى كلامه بتصرف والسلام.
يتبع بحول الله تعالى
أرسل تعليق