فضيلة أيام الحج
قال الله تباركت أسماؤه: “وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ” [الفجر، 1-5].
أقسم الله جل وعلا بالفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر، وسياق الآية دال على أنه قسم عظيم بليغ خصوصا عند ما قال “هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ“وذو حجر هو العاقل الذي لم يغلب على عقله.أما قوله “والفجر” فذكروا فيه وجوها منها أن المراد “صلاة الفجر” وإنما أقسم بصلاة الفجر لعظمها وفضلها؛ لأنها صلاة في مفتتح النهار، وتجتمع لها ملائكة النهار وملائكة الليل، ولأنها صلاة الشهود كما قال تعالى “وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَان الْفَجْرِ كَان مَشْهُودًا” [الاِسراء، 78]، وقيل إن المراد فجر يوم معين وهو فجر يوم النحر -يوم العيد- وذلك لأن المناسك من خصائص الملة الحنيفية الإبراهيمية، وكان يوم الحج يوما عظيما يأتي الإنسان فيه بقربان؛ كأن الحاج يريد أن يتقرب بذبح نفسه.. فلما عجز عن ذلك فدى نفسه بذلك القربان كما قال تعالى: “وفديناه بذبح عظيم“.
ثم قال “وليال عشر” هكذا منكرة، وإنما جاءت منكرة من بين ما أقسم الله به؛ لأنها ليال مخصوصة بفضائل لا تحصل في غيرها. والتنكير دال على الفضل العميم والخير الكثير والأهمية القصوى، وقد قال غير واحد من علماء السلف والخلف إنها “عشر ذي الحجة”؛ قال الحافظ ابن كثير “وهو الصحيح ونسبه الشوكاني إلى جمهور المفسرين”.
وفي الحديث الذي رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام-يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء” وقال صلى الله عليه وسلم كذلك: “ما من أيام يتقرب إلى الله فيها بعمل أفضل من هذه الأيام العشر”.
فهذه الأحاديث دالة على فضل أيام عشر ذي الحجة، وأنها من أفضل أيام السنة، وأن العمل الصالح فيها مستحب استحبابا شديدا كالصلاة والصيام والصدقة والبر بالوالدين، وصلة الرحم، وعيادة المريض، ومواساة الفقراء والمساكين، وإصلاح ذات البين، ومنفعة الناس، والدعاء، والذكر، وتلاوة القرآن.. ولذلك كان سعيد بن جبير إذا دخلت عشر ذي الحجة شمر عن ساق الجد في العبادة، واجتهد فيها اجتهاداملحوظا، وكان يقول: “لا تطفئوا سُرجكم ليالي العشر” يريد الحث على صلاة التهجد بالليل، ويقول:..أيقظوا أهليكم لصوم يوم عرفة” وإذا كان الإنسان مشغولا عن هذه النفحات الإلهية أو ممن لا رغبة له فيها أو ممن لا همة له في الاقتداء بهؤلاء الأعلام الأماثل، فلا أقل من أن يجتنب المعاصي والآثام في هذه الأيام الفاضلة المباركة إذا آن أوانها وهبت نسماتها؛ فإن المعاصي والذنوب موانع المغفرة في مواسم الرحمة..
ومن أعظم وأجل ما يتقرب به المرء في هذه الأيام الاشتغال بالحج والعمرة؛ وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” قال العلماء “المبرور” الذي لا يخالطه إثم وقيل الذي لا رياء فيه ولا رفث ولا فسوق وقيل المقبول قالوا ومن علامات القبول أن يرجع خيرا مما كان وألا يعاود المعاصي والآثام التي كان يأتيها…
فهذه علامة الحج المبرور، ولكن الواقع السلوكي والعملي لبعض الناس الذي يسر الله له القيام بهذا الفرض يجافي هذه الحقيقة الشرعية.. فلم يعد الحج يمثل هذه القوة الرمزية السامية التي يشير إليها خطاب الشارع الحكيم، كما لم يعد يشكل فاصلا ملموسا معتبرا في حياة كثير من الناس؛ إذ لا يلبثون بعد الحج أن يعودوا إلى ما كانوا عليه بعده، وهذا في تصوري يرجع إلى سببين:
أولهما: أن كثيرا من الحجاج يؤدون المناسك من دون معرفة أو فهم لما يقومون به، ومن دون إدراك لغاياته ومقاصده، ولذلك فإن أثر الانتفاع بالحج في الارتقاء بشخصياتهم وعاداتهم ضعيف، ولله در الشيخ أبي حامد الغزالي حين افتتح كتاب الحج بقوله: “اعلم أن أول واجب الحج الفهم“.
والثاني: أن المبادئ والقيم لا تعمل في فراغ، وإنما تحتاج إلى شروط معينة مخصوصة لتؤدي إلى ثمراتها المرجوة؛ فمثلا الإجهاد البدني الشديد يجعل المرء ينشغل بالبحث عن راحة جسده عوضا عن تغذية روحه وتزكية نفسه، وكذلك أن يتصور المرء أن الحج عبارة عن قانون يشبه قانون السير فهذا يقلل من أثر الحج وفائدته وتأثيره في حياتنا؛ علماؤنا عندما أرادوا أن يختصروا الكلام عن مقاصد الحج وأسراره ذكروا أن “الحج كالصلاة وأنه تشريف الملك جل وعلا عبيده بدخول محله وحرمه، والتعرض فيه لطلب نواله” فالحج تجربة إيمانية وروحية عظيمة في التوجه إلى الله تعالى، وصدق التوجه إليه والإخبات والركون إليه؛ يقول أبو عبد الله ابن راشد القفصي: “الحاج إذا وصل إلى المدينة فليحمل على فكره تعظيم من يقصده، ويتخيلفي مسجدها وطرقاتها نعل أقدامه صلى الله عليه وسلم وأصحابه هناك، ويتأدب في الوقوف، وينبغي لمن عاد من الحج أن يقوى رجاؤه بالقبول، ومحو ما سلف من الذنوب، ويحذر من تجديد الزلل، ويواظب على خير العمل“.
وللشيخ خليل أبي المودة في مناسكه كلام نفيس عن الحكم المتعلقة بالحج اقتضب منه قوله “وشرع الغسل عند الإحرام إشارة إلى أن من استدعاه الملك ينبغي أن يكون على أكمل الحالات، ويطهر قلبه ولسانه إذ الظاهر تبع للباطن.. وشرع خلع الثياب ليتخلى عن الدنيا، ويقبل على باب ربه وعبادته؛ لأن تزع ثيابه كنزع ثياب الميت على المغتسل، وفيه شَبهٌ بموسى عليه السلام؛ فإنه لما قدم إلى المناجاة قيل له: “فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى” [طه، 11] والحاج قادم إلى الأرض المباركة المقدسة، وقصدا لمخالفة حالته المعتادة ليتنبه لعظيم ماهو فيه، فلا يوقع خللا ينافيه؛ ثم أمره بالإحرام؛ لأنه لما دعي واتى مجيبا قيل له قدم النية وأظهر ما أتيت له فقل: “لبيك” أي إجابة بعد إجابة، وأمره أن يفعل ذلك بعد الصلاة؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فكأنه قيل له انته عن الرعونات البشرية، وتهيأ للإقدام على الله، وقد أمر الله موسى قبل مناجاته بصيام أربعين يوما.. “.
والله نسأل أن يتقبل من حجاجنا الكرم أعمالهم، وأن يضاعف مثوبتهم في هذه العشر الأواخر التي تتنزل فيها الرحمات وتغتفر الذنوب والآثام..
والله المستعان
أرسل تعليق