عن مدارج الحكمة في القول
الحكيم من تكون أقواله بمثابة الهناء الذي يوضع في مواطن النقب على وجه الكفاية بحيث لا يجوزها إلى غيرها، فلا عوج ولا أمت.
ومقام الحكمة هذا، قد بينوا أنه يتأسس على مقامات أخرى تكون له كالمدارج، وأولها الإخلاص لله تعالى، بحيث يكون وجهه سبحانه هو المقصود من كل قول، وقد بين عز وجل في محكم التنزيل أن القول بأثره وذلك في مثل قوله سبحانه: “من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا” [النساء: 85].
وقد جاء أثر القول في هذه الآية الكريمة مرتبطا بعيال الله، ونفعهم، وقد صح عن المصطفى قوله عليه الصلاة والسلام: “الناس عيال الله، وأحبهم إلى الله، أنفعهم لعياله“[1]، وهذا النفع لا يكمل إلا بالمعرفة بمن يُتوخى نفعُه، وباحتياجاته، وقابلياته، وسياقاته، بعد المعرفة بالمقول، والتأكد من سلامته نسبةً ومصدراً، ومن نفعِه للمقول له، حالا ومآلا، مما يشكل المقام الثاني من مقامات الحكمة في القول، وهو مقام العلم، وهذا ما أجمله قوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل حين بعثهما إلى اليمن في وصيته لهما بقوله الشريف: “بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا“[2]، فالتبشير والتيسير يقتضي العلم بالمبشر، والمبشر به، وبالميسر، والميسر له، وهو باب يفضي إلى مجال واسع له مفاتيحه وأدواته.
المقام الثالث، ويتأسس على المقامين السالفين (الإخلاص والعلم)، وهو مقام الخبرة الناجمة عن الممارسة والمكابدة، فكما أن السباحة لا تُتعلم إلا في الماء، فكذا الخبرة في القول لا تدرك إلا بممارسته من قبل من َلحقَ، تحت عَيْنَيْ من سبق، وهو قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لمجاهد بن جبر حين أحجم عن القول في حضرته: “قل بحضوري حتى إذا أخطأتَ صوّبتك” أما إذا قال من لحَق دونما تأطير ممن سبق، فذاك كالوزن بغير ميزان.
وإذا استُكملت هذه المقامات المدارج الثلاثة، فإنها إذ ذاك تفضي إلى مقام الحكمة في القول، وما أحوجنا وأحوج القائلين والمقول لهم في مجتمعاتنا اليوم إلى المزيد من هذا الفضل.
والله المستعان
—————————————-
1. أخرجه البزار في مسنده، 2/324- ح: 6947.
2. أخرجه بهذا اللفظ البزار في مسنده، 8/117 -ح: 3119 وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
أرسل تعليق