عناية المرأة المحدثة بـرواية الموطأ (2/2)
اضطرتنا الضرورة المنهجية في الجزء الأول من “عناية المرأة المحدثة برواية الموطأ” إلى البدء بمقدمات أساسية تهم؛ التعريف بمصطلح الرواية، والحديث عن أهمية الموطأ، ومؤلفه، ورواته، قبل الكلام عن اهتمام المحدثات بنقله بمختلف رواياته.
ونواصل في هذا الجزء الثاني الحديث عن هذا الجانب، على أن نخصص الجزء الثالث بحول الله “لدلائل أخرى من اهتمام المرأة بالموطأ، وبالمصنفات حوله”، والجزء الرابع “لتراث النساء في الحديث”.
فمن النساء اللواتي اعتنين بروايته، مسندة العراق شهدة الكاتبة؛ فقد ذكر ابن نقطة ضمن مروياتها؛ الموطأ رواية عبد الله بن مسلمة القعنبي، ورواية سويد بن سعيد الحدثاني، كما تقدمت الإشارة إليه في الجزء الأول، وعند ترجمته لشهدة قال: “روت الموطأ لمالك عن أبي الحسين أحمد بن عبد القادر بن يوسف البغدادي”[1].
والرواية المقصودة من قوله: (روت الموطأ) هي رواية القعنبي، والدليل على ذلك قول التجيبي في برنامجه: “موطأ مالك رواية أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي.. أخبرنا.. بجميع هذا الكتاب الإمام العلامة.. شرف الدين أبو محمد التوني فيما شافهنا به من إذنه مرات، بحق قراءته لجميعه في رحلته الأولى على الأعز بن فضائل.. بحق سماعه من شهدة الإبرية، وبإجازته من يحيى بن ثابت…، قالت شهدة، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف، وقال يحيى، أخبرنا أبي ثابت بن بندار، قالا: أخبرنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن يوسف بن محمد بن دوست العلاف، قال أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم البزار قال: حدثنا إسحاق بن الحسن بن ميمون الحربي قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك، رحمة الله عليهم أجمعين.”[2]
ويشهد له كذلك قول الروداني في صلته -وقد ساق سند روايته عن شيوخه إلى شهدة-: “الخامسة رواية عبد الله بن مسلمة القعنبي…، شهدة بنت أحمد الإبري، عن أحمد بن عبد القادر بن يوسف…”[3]، وذكر باقي السند بنحو ما تقدم من قول التجيبي.
وشهدة هذه هي فخر النساء بنت المحدث أحمد بن الفرج بن عمر الإبري، مسندة العراق (تـ579هـ)، عمرت وصارت أسند أهل زمانها، قال عنها الشيخ المسند رشيد الدين ابن مسلمة -وقد ذكرها في مشيخته البغدادية- “بارك الله لها في روايتها حتى صارت أسند أهل زمانها”[4].
وأفادنا سند التجيبي أن الأعز بن فضائل حمل الموطأ برواية القعنبي سماعا من شهدة الكاتبة، وإجازة من يحيى بن ثابت عن أبيه ثابت بن بندار، بسندهما عن شيوخهما إلى القعنبي.
وورد في ذيل التقييد[5] -عند ترجمة عجيبة بنت أبي بكر بن محمد بن أبي غالب الباقدارية (تـ647هـ)- أنها تروي الموطأ عن ثابت بن بندار. وعجيبة هذه هي الشيخة المسندة المعمرة ابنة المحدث الحافظ أبي بكر الباقداري، قال عنها الذهبي: “عمرت.. وانتهى إليها علو الإسناد… وتفردت في الدنيا وخرجوا لها مشيخة في عشرة أجزاء.. تفردت زينب بنت الكمال بإجازتها”[6].
وشهد ابن باشكوال أن المحدثة خديجة بنت جعفر بن نصير بن التمار التميمي، زوج عبد الله بن أسد الفقيه “حدثت عن زوجها بموطأ القعنبي، قراءة عليه بلفظها في أصله، وقيدت فيه سماعها بخطها في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، سمعت شيخنا أبا الحسن بن مغيث -رحمه الله- يذكر ذلك، وذكر لي أن الكتاب عنده، ثم رأيته بعد ذلك على حسب ما ذكره رحمه الله ورأيت من تحبيسها كتبا كثيرة على ابنتها ابنة أبي محمد بن أسد الفقيه”[7].
وتقدم لنا ذكر أن المحدثة مسندة الدنيا زينب بنت الكمال أحمد بن عبد الرحيم المقدسية (تـ 740هـ)، تروي عن إبراهيم البغدادي موطأ القعنبي وموطأ سويد الحدثاني إجازة.
ووصل محمد بن سليمان الروداني سنده بسندها فقال: “الرابعة رواية سويد بن سعيد: إلى زينب بنت الكمال السعدية، عن إبراهيم بن محمود بن الخير، عن عبد الخالق بن يوسف، عن أبي سعيد عبد المالك بن عبد الغافر، عن أبي طالب عمر بن إبراهيم الزهري، عن أبي بكر محمد بن عريب، عن أبي بكر أحمد بن محمد بن عبد العزيز الوشا، عن سويد بن سعيد، عن مــالك”.[8]
وأما رواية معن بن عيسى القزاز
فترويها زينب بنت الكمال كذلك عن شيخها إبراهيم بن محمود البغدادي، عن أبي الحسن ابن يوسف، عن أبي طالب عبد الله بن محمد بن ست، عن أبي إسحاق البرمكي، عن علي بن محمد الوراق، عن الهيثم بن خلف الدوري، عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن بن عيسى، عن مالك. ذكره الروداني في الصلة[9].
وأما رواية أبي مصعب الزهري
فوقفت على ثلاث من النساء المحدثات، اللواتي يروينها عن شيوخهن، وهن: عجيبة الباقدارية، وسيدة المارانية، وزينب بنت الكمال المقدسية.
فأما زينب وعجيبة، فهذا سندهما كما ساقه الروداني، قال: “الثانية رواية أبي مصعب، وبه (يعني سند الروداني عن شيوخه)، إلى زينب الكمالية، عن عجيبة الباقدارية، عن مسعود الثقفي، (عن ابن منده، وهو والبحيري عن أبي علي زاهر السرخسي، عن إبراهيم بــن عبد الصمد الهاشمي، عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، عن الإمام مالك)”[10].
وتعد عجيبة الباقدارية -شيخة زينب- آخر من روى بالإجازة عن مسعود الثقفي[11].
وأما سيدة بنت موسى بن عثمان بن عيسى بن درباس المارانية (تـ695هـ)، فأفادنا محمد ابن أحمد الفاسي المكي، أنها “حدثت عن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي بالموطأ رواية أبي مصعب..”[12].
وجاء في ثبت أبي جعفر البلوي (تـ938هـ) -عند حديثه عن علو سند ابن مرزوق حول الموطأ- “وقد وقع في الكتاب لشيخنا، رضي الله عنه علو مستطرف من طريق غير يحيى، وهو ما حدثه به سيدنا الإمام أبوه رضي الله عنه إجازة، وقرأه برواية يحيى كما تقدم. قال (أنا) شيخنا الحافظ زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي، وصهره الحافظ نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، والعلامة محب الدين محمد ابن الإمام جمال الدين أبي عبد الله بن يوسف بن هشام إجازة منهم. قالوا: أخبرنا المسند فتح الله أبو الحرم محمد بن محمد القلانسي، وأبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن إسماعيل الفارقي، قال الأول: بقراءتي عليهما، وقال الآخران: سماعا، قالوا جميعا: خلا الفرائض والمساقاة فليست داخلة في الرواية، وخلا من كتاب الضحايا والصيد إلى القسامة. قال محب الدين: ومن جامع القراءة إلى جامع الصلاة فعلى القلانسي فقط.
قالا: (أتنا) سيدة بنت موسى المارانية سماعا عليها، أنبأنا المؤيد بن محمد بن علي الطوسي (أنا) أبو محمد هبة الله بن سهل السيدي، (أنا) أبو سعيد بن محمد البحيري، (أنا) أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي، (أنا) إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، (أنا) أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الحارث الزهري المدني (نا) مالك بن أنس”[13].
وأما رواية سعيد بن عفير
فترويها المحدثة فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي، عن يوسف بن عمر بن حسين الختني، عن عبد الغني ابن بلبان، عن أبي القاسم بلبان، عن أبي القاسم البوصيري، عن محمد بن بركات النحوي، عن إبراهيم بن سعيد الحبال، عن أبي محمد عبد الرحمن النحاس، عن أحمد ابن بهزاد الفارسي، عن عبد الله بن سعيد بن عفير، عن أبيه، عن الإمام مالك.[14]
وأما رواية يحيى بن يحيى الليثي
فممن رواها من المحدثات خديجة بنت أبي الحسن بن سراج الدين بن الملقن، عن أبي اليــمن محمد بن عبد اللطيف بن الكويك، عن الفخر عبد الواحد ابن المنير، عن عبد العزيز الربعي، عن أبي الحسن بن الفضل الكسائي، عن مولى ابن الطلاع، عن يونس بن مغيث الصفار، عن يحيى بن عبد الله بن عيسى، عن عم عبيد الله بن يحيى، عن أبيه، عن الإمام مالك رضي الله عنه وعنهم.[15]
وما يمكن استفادته من تأمل فاحص لهذه الأسانيد، ما فيها من الدلالة على إسهام المحدثات في رواية الحديث، ونقل أمهات المصنفات فيه سماعا وعرضا وقراءة وإجازة …؛ ورواية جلة من أفاضل العلماء عنهن، كما أنها تكشف أن أشهر روايات الموطأ اتصلت كذلك للعلماء شرقا وغربا من طرق النساء المحدثات؛ فمحمد بن سليمان الروداني مثلا اتصل له الموطأ برواية كل من القعنبي، ومعن بن عيسى، وسويد الحدثاني، وأبي مصعب الزهري، وسعيد بن عفير، ويحيى بن يحيى الليثي من طرق شهدة، وزينب الكمالية، وفاطمة بنت محمد بن عبد الهادي، وخديجة بنت أبي الحسن ابن الملقن..
وبعد، فهذه رؤوس مسائل تستدعي الغوص في كثير من الجزئيات، تعمقا وتحليلا لكن ما لا يدرك كله، لا يترك جله، وحسبي الإشارة التي يمكن أن يستنبط منها المهتم ما يفيد في البحث في قضايا الرواية والرواة.
والحمد لله على عظيم فضله وإحسانه، وصلى الله على خيرته من خلقه، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
————————
1. نفسه، 2/378.
2. برنامج التجيبي، ص: 65-66.
3. صلة الخلف بموصول السلف: ص: 37-38.
4. المشيخة البغدادية، ص: 104 ترجمة 55، وانظر ترجمتها في السير20\542.
5. ذيل التقييد: 2/383.
6. السير: 21/146، و 23/232.
7. الصلة: ص: 532ت 1535، ط المكتبة العصرية 2003 باعتناء د. صلاح الدين الهواري.
8. صلة الخلف، ص: 37
9. نفسه: ص 38.
10. نفسه، ص: 37.
11. العبر، 5/194.
12. ذيل التقييد: 2/377.
13. ثبت البلوي، ص: 278-279.
14. صلة الخلف، ص: 38.
15. نفسه، ص: 35.
أرسل تعليق