علاقة الاستهلاك بالضروريات الخمس
ثالثا: علاقة الاستهلاك بحفظ العقل
المحافظة على العقل متضمنة في حفظ النفس[1]، وقد حافظت الشريعة على العقل مناط التكليف، ولذلك حرمت كل ما يؤذيه.
ومن القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية أن المسلم لا يجوز له أن يتناول من الأشربة ما يؤذيه أو يضره، أو يقتله ببطء، أو يعجل بقتله؛ لأن أعضاءه ونفسه، وديعة عنده، أنعم الله عليه بها، فلا يجوز له أن يتصرف فيها إلا بما يرضي مستخلفه فيها[2]. ومن هذا القبيل تحريم الإسلام للسكر لحماية العقل الإنساني، فالمسلم لا يستهلك مسكرا؛ لأنه حرام “كل مسكر خمر وكل مسكر حرام”[3]، فكل ما توفرت فيه العلة وهي الإسكار حرم تناوله؛ لأن “السكر حرام في كل شريعة”؛ لأن “الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه”[4].
وقد حرصت الشريعة على حماية العقل لذلك حرمت على المسلم استهلاك الخمر “يَا أَيُّهَا الَذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَنصَابُ وَالاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ اَنتُم مُّنتَهُونَ” [المائدة، 92-93].
وقد قرر عمر بن الخطاب رضي الله عنه حقيقة تأثير الخمر على العقل في قولته المشهورة “الخمر مهلكة للمال مذهبة للعقل“[5].
فبقاء العقل مقصود للشرع؛ لأنه آلة للفهم، وحامل الأمانة، ومحل الخطاب والتكليف، ولذلك فاستهلاك ما يؤذي إلى هلاكه حرام من مسكر أو مخدر، لأن بقاءه مقصود وتفويته مفسدة[6].
رابعا: علاقة الاستهلاك بحفظ النسل
وهو مرتبط بحفظ النفس من جهة الوجود، فقد أوجب الله النفقة للأجنة في بطون الأمهات بقوله: “وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ” [الطلاق ،6]؛ لأن الغذاء لا يصل إلا بسببها وذلك حفاظا على النسل، فهذه النفقة للجنين فهي تدور معه وجودا وعدما، ولذلك نص الشارع على وجوب الإنفاق إلى الوضع لئلا يتوهم إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة”[7]، ومن هذا القبيل قوله: “تعالى: “الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ اَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ” [البقرة، 231].
وقد استدل العلماء بهذه الآية على وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه، وقد أضاف الله تعالى الرزق للأم؛ لأن الغذاء يصل إلى الرضيع بواسطتها في الرضاع[8].
ورعاية للنسل في أن ينمو سليما قويا، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفرض لكل مولود في الإسلام على قدر حاجته، ومتطلباته الاستهلاكية، وفي ذلك يروي أبو عبيد في كتابه الأموال “كان عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم، ثم أمر مناديا فنادى تعجلوا أولادكم عن الفطام؛ فإن نفرض لكل مولود في الإسلام”[9]، ومما ورد في الشرع مما له علاقة بالمحافظة على النسل تحريم تناول الأطعمة أو الأشربة التي تقتله أو تؤذيه؛ لأن النسل له “حق وحرمة”[10].
وقد ثبت أو تناول المرأة للمسكرات والمخدرات يؤذي نسلها، فضررها لا يقتصر على شاربها بل يتعدي ذلك إلى نسله. فقد أثبت الطب الحديث أن الخمر يمر بكل سهولة إلى الجنين عن طريق المشيمة، مما يحدث معه تشوهات جنينية[11].
ولذلك يحرم تناول ما يؤذي النسل انطلاقا من القاعدة الفقهية “لا ضرر ولا ضرار” فهذه الأحكام الشرعية تبين كيف حمى الشرع النسل من جهة الاستهلاك.
خامسا: علاقة الاستهلاك بحفظ المال
تتحدد العلاقة بين الاستهلاك بحفظ المال من خلال الضوابط الشرعية التي وضعها الشرع لضبط تصرفات الإنسان المالية.
فلا يجوز للمسلم أن ينفق ماله لاستهلاك السلع الخبيثة؛ لأن إنفاقه عليها يعتبر محرما في الشريعة الإسلامية “إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام”[12].
كما لا يجوز له أن ينفق أمواله في استهلاك السلع التي تعبر عن مظاهر الترف والإسراف كاتخاذ أواني الفضة والذهب، فعن حذيفة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولنــــا في الآخرة“[13]؛ لأن هذا السلوك دليل على إضاعة المال فيما لا ترجى منفعته، وقد يكون في المجتمع من هو محتاج إلى فضول أموال الأغنياء، ولأنه كنز للمال، ومنع لتداوله فيما يرجى نفعه العام، والشارع قد أوصى بحفظ المال وتنميته[14].
ومن الأحكام الشرعية التي تدل على حماية المال النهي عن الاحتكار، والأمر بإيفاء الكيل والميزان، والنهي عن التطفيف في الميزان والغبن وكل صور البيوع المحرمة وذلك حماية للمستهلك أن يتضرر أو يبدد الموارد الاقتصادية.
هذه نماذج من الأحكام الشرعية التي تبين أن الشريعة الإسلامية راعت في مجال الاستهلاك مقاصد حفظ هذه الكليات الخمس.
يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى..
——————————
1. نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، أحمد الريسوني، ص: 153.
2. المحلى لابن حزم، ج: 7، ص: 418.
– الحلال والحرام للقرضاوي، ص: 76.
3. أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة باب النهي عن المسكر، ج: 3 ص: 327.
4. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج: 6 ص: 287، دار الكتاب العربي، بيروت، 1387هــ/ 1967م.
5. المبسوط: السرخسي، ج: 24، ص: 2، طبعة السعادة، مصر بدون تاريخ.
6. المقاصد العامة للشريعة، يوسف حامد العالم، ص: 377، المعهد العالي للفكر الإسلامي بالولايات المتحدة، الطبعة الأولى، 1412هــ/1991م.
7. تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ج: 4، ص: 386 دار الفكر.
8. روي عن الإمام مالك أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي أن الرضاعة على الأم؛ فإن لم يكن لبن ولها مالها فالإرضاع عليها في مالها.
– الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج: 3، ص: 163.
9. الأموال، لأبي عبيد، ص: 303
10. المنتقي: للباجي، ج: 7، ص: 82، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1333هــ.
11. الخمر في الفقه الإسلامي: فكري أحمد عكاز، ص: 152، المختار الإسلامي الطبعة الأولى، 1977م.
12. رواه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، انظر البخاري بحاشية السندي، ج: 2، ص: 29.
13. رواه البخاري في كتاب الأطعمة، باب الأكل في إناء مفضض، انظر البخاري بحاشية السندي، ج: 2، ص: 298.
14. القيم والمعايير الإسلامية في تقويم المشروعات، محمد أنس الزرقاء دراسة منشورة بمجلة المسلم المعاصر، ص: 93، العدد: 31، رجب شعبان- رمضان/1402هـــ.
أرسل تعليق