عبد الله بن حسون السلاوي
استمرارا في التعريف بإسهام التصوف الجزولي الشاذلي في بناء المغرب الثقافي والعمراني، نقف في هذه الحلقة مع عالم كبير طبع بعلمه وسلوكه وأخلاقه الإنسانية الحاضرة السلاوية والمغرب برمته؛ يتعلق الأمر بالشيخ العالم المربي المجاهد سيدي عبد الله بن حسون السلاسي السلوي.
ولد أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الحسن الخالدي السلاسي ثم السلوي الشهير بابن حسون، سنة 920هـ/1515م بسلاس بمنطقة فاس..
ويمتد النسب الصوفي لهذا الرجل الفاضل إلى الإمام الجزولي؛ فهو قد أخذ عن الشيخ عبد الله الهبطي الذي أخذ مباشرة عن الشيخ الغزواني مول القصور عن الشيخ عبد العزيز التباع عن الشيخ محمد الجزولي رحمهم الله.. لكن الناصري في “الاستقصا” يرى أن عبد الله بن حسون أخذ أيضا عن الإمام الغزواني مول القصور الممتد نسبه العلمي والصوفي إلى الشيخ الجزولي عبر الإمام التباع.
ويعد سيدي عبد الله ابن حسون أحد الأعلام المبرزين في عصره علما وسلوكا وأدبا عاليا.. وقد جمع بين العلوم الفقهية والصوفية والعقلية حتى أصبح قطبا من أقطاب الطريقة الشاذلية؛ نقرأ في كتاب “السياسة والمجتمع في العصر السعدي” لإبراهيم حركات أن ابن حسون تتلمذ بجامع القرويين المبارك على عبد الواحد الونشريسي (تـ 995هـ)-وما أدراك ما الونشريسي- وعبد الرحمن بن إبراهيم الدكالي (تـ 962هـ)، وأبي الحسن علي بن هارون (تـ 951 هـ)، وعبد الوهاب الزقاق (تـ 960هـ) وأحمد الحباك (تـ 938 هـ)؛ ثم انتقل عبد الله بن حسون إلى معهد المواهب بالجبل الأشهب بمنطقة الهبط قرب الشاون، وهناك أخذ الطريقة الجزولية عن الشيخ عبد الله الهبطي (تـ 963 هـ) وفق السند الذي ذكرناه.
وقد جمع الشيخ عبد الله بن حسون “بين العلم والصلاح والإمامة في المساجد والجهاد والشجاعة والجرأة” حسب محمد جنبوبي في كتابه “الأولياء بالمغرب” ( مطبعة دار القرويين 2004، ص: 160).
عمل سيدي عبد الله ابن حسون على نشر منهجية شيخه الشيخ عبد الله الهبطي في التصوف، ولما استوطن مدينة سلا انبرى للتدريس بجامعها الأعظم المبارك، فدرّس الفقه المالكي بمختصر خليل-وكان من دروسه الناجحة جدا- والمنطق بمختصر السنوسي ومختصر بن الحاجب وشرحه للشيرازي، والنحو بألفية مالك، ودرّس علم الكلام بعقائد السنوسي الكبرى والوسطى والصغرى، والمنطق بكتاب السلالجي وعلم الحساب بتلخيص ابن البنا المراكشي العددي والتفسير وعلم الإشارات الصوفية، وقد حمل، رحمه الله، رسالة القرويين ليبثّها بالحاضرة السلاوية، كما نشر ما حصله بجبال الهبط من علوم ومعان سامية بما شكل دينامكية ثقافية وفكرية أسهم هذا العالم الفاضل في جعلها تعطي ثمارها في مدينة سلا التي اكتسبت صفة العلم والصلاح بامتياز.
إن هذه المواصفات الصوفية -حسب محمد جنبوبي- لم تكن “حسب ثقافة ذلك العصر بمعزل عن مكونات أخرى نجد في واجهتها البعد الجهادي المنسجم مع مشروع الدولة السعدية والمد الشعبي المشحون بالرغبة في تحرير الثغور المغربية من الاحتلال الأجنبي؛ فكان اقتران التصوف بالجهاد عاملا حاسما في تدعيم مكانة الأولياء وتجذرهم بين مختلف أوساط المجتمع إضافة طبعا إلى البعد التعليمي. وكما يرى إبراهيم حركات في كتابه “السياسة والمجتمع في العصر السعدي” أن الزوايا “ظلت في العهد السعدي مرتبطة بشكل عميق بالإشعاع الديني الذي طبع حياتها الداخلية على السواء؛ فهي معابد للصلاة والذكر، كما أنها معابد تعليم وتربية (..) وقد كان كثير من الصلحاء والصوفية يأمرون الناس بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يترددون في لفت نظر الحكام إلى ما يلحظونه من منكرات وما يجب أن يقوموا به من معروف.
يقول محمد جنبوبي في كتابه “الأولياء بالمغرب، ص: 160): “في ظل هذه الأجواء ستتكون الشخصية الصوفية لعبد الله بن حسون التي امتزجت فيها الأبعاد الثلاثة: دين وعلم وجهاد لتجعل منه أحد كبار رجال التصوف في عصره ثم واحدا من بين أشهر الأولياء في المغرب إلى درجة بلغ معها احترام السلطان أحمد المنصور الذهبي له حد اقتطاعه لفائدته قطعة أرض بسلا من أجل بناء زاويته وداره عليها، كما أن الشيخ ابن حسون أصبح يترأس احتفال موسم الشموع بمناسبة المولد النبوي، الاحتفال الذي اقتبسه المنصور الذهبي من العثمانيين عند زيارته للعاصمة إسطنبول.
شارك سيدي عبد الله بن حسون في الجهاد ضد المحتل الأجنبي، من ذلك مشاركته في معركة وادي المخازن الشهيرة، كما شارك في معارك ضد البرتغاليين بالرباط وسلا. يقول محمد بن علي الدكالي في “الإتحاف الوجيز: تاريخ العدوتين” (منشورات المكتبة الصبيحية، تحقيق مصطفى بو شعراء): “كان الشيخ شجاعا ومجاهدا، وقد ظهرت شجاعته عندما هاجمت السفن البرتغالية مدينة سلا والرباط، فتصدى لها مع مريديه وردوها على أعقابها وكبدوها خسائر باهرة، وشرع الناس يحترمونه ويقدرونه، وحينئذ رأى الناس فيه رجلا صالحا وأنه رجل يستحق الاحترام والتقدير في الحياة وبعد الممات”..
ومعلوم أن بدايات القرن السادس عشر شكلت منعطفا حاسما في التطور السياسي والثقافي للمغرب عبر الوحدة الوطنية في مواجهة الغزو الأجنبي؛ وفيما يخص موضوعنا فقد ألف الشيخ عبد الله الهبطي، شيخ صاحبنا ابن حسون، ألفية دعا فيها إلى الجهاد ومحاربة المحتل انطلاقا من ثوابت الثقافة المغربية الإسلامية، وقد كان من نتائج هذه المدرسة المباركة أن رابط سيدي عبد الله بن حسون- تلميذ عبد الله الهبطي- في مدينة سلا التي كانت مهددة بالاحتلال البرتغالي؛ خاصة وأن المصادر التاريخية تقول أن قائد سلا الحاج افرج أراد أن يسلم مدينة سلا سنة 1546 إلى Luis de loriero عامل Mazagan (مدينة الجديدة)، بالإضافة إلى أنه كانت هناك رغبة شديدة لاحتلال مدينة سلا كما يتبين من رسالة القائد البرتغالي Santiago الذي نصح حكومته بالتخلي عن بعض المراكز المحتلة، على أن يركز الاهتمام على مواجهة الدولة العثمانية، فكان جواب الأسقف Algarve إلى أنه من أولويات الملك البرتغالي القضاء على الدولة السعدية، ولتحقيق ذلك تبدو مسألة احتلال سلا حاسمة في هذا الاتجاه، لتكون سلا بعد ذلك قاعدة للهجوم على فاس ومكناس.. يتعلق الأمر إذن بمشروع استعماري كبير، وإستراتيجية محكمة، لكن المدرسة الصوفية المغربية- والحديث هنا بالأساس عن الهبطي وابن حسون والعياشي- رأت رأيا آخر معلنة أن التربية العلمية السلوكية الصوفية تتحول بشكل طبيعي إلى طاقة جهادية لا تطيق أن ترى المحتل يطأ بأقدامه شبرا من أرض الوطن؛ من هنا وجب القول أن التربية الجهادية بمفهومها الشامل شكلت جزءا وجوديا في الشخصية المغربية، ولا يلتفت لبعض الاستثناءات التي سعى البعض التأكيد عليها لفصل التصوف عن الجهاد ببلاد المغرب، واللبيب بالإشارة يفهم..
لقد قامت الزاوية الحسونية على أساس من التصوف العلمي العملي كاستمرار “للمشروع العمراني” الكبير الذي أدافع على أنه كان من خصائص “المدرسة الجزولية”، وابن حسون أحد ثمارها المباركة، وهو الذي قام بدور حاسم في تعبئة المغاربة ضد الغزو الاستعماري مع مشاركته المباشرة في الميدان، وقد مر معنا أنه شارك في معركة وادي المخازن.. لقد أثمرت هذه التربية الجهادية الوطنية الإنسانية رجلا من عيار المجاهد العياشي الذي أرهب المستعمر البرتغالي والإسباني-خصوصا بآزمور وسلا والمعمورة- وأضحى حديث السياسة اليومية في أوربا لمدة عقود.. لقد حفز ابن حسون تلميذه محمد العياشي حين أمره للتوجه لجهاد المحتل بآزمور بقوله: “هذا الجواد هو دنياك وآخرتك”، فكانت هذه العبارة “منطلق نصف قرن من الجهاد في سبيل الله للبطل العالم محمد العياشي” بتعبير الدكتور المرحوم محمد حجي..
وقد قال الشيخ محمد ابن أبي بكر الدلائي بشأن علاقة المجاهد العياشي بشيخهما ابن حسون: فله (يقصد العياشي) مددٌ من هذا النور وسنده فيه، والبرهان ينتهي من أستاذه المنقطع إلى الله العارف بالله الإمام أبي محمد سيدي عبد الله ابن حسون(..) فلذلك كان التصوف عند ابن حسون جهادا في أعلى مراتبه والعلم في أصفى موارده والخلق في أعلى مثله، والإيمان في أسمى أنواره وإشراقاته..
وهكذا نرى أن ابن حسون تلقى عن شيخه عبد الله الهبطي المعارف العلمية والتربية السلوكية الصوفية، وحب الجهاد وبغض المحتل، وكان من نتائج هذه الروح الجهادية ظهور المجاهد العياشي، كبطل قومي بلغت شهرته الآفاق..
فابن حسون تتلمذ في مدرسة جهادية عندما تلقى تكوينه على يد شيخه الهبطي، وهذا الأخير تلقى عن الشيخ المجاهد محمد بن عبد الرحيم بن يجبش التازي الذي ألف كتابا في الجهاد، ويروي محمد المهدي الفاسي في “ممتع الأسماع” (ط 1،1989، ص: 88) أن الشيخ عبد الله الهبطي من “أهل العلم والعرفان ورفعة القدر، الواضحة البرهان، وكانت له معرفة تامة بعلوم القوم وقصد في أول أمره الشيخ أبا عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن يجبش بتازا، فوجده في مرض موته وأخذ عنه.. ثم قصد الشيخ الغزواني بفاس وأخذ عنه وصحبه مدة، وانطلق ينشر العلم والصلاح بجبال غمارة، ولا شك أن منهج الغزواني في عمارة الأرض ومحاربة القفر والخلاء قد أثر على الشيخ الهبطي في عمله العمراني الإصلاحي في جبال الهبط..
ولقد اعتبر ابن حسون السماع ركنا أساسيا في طريق القوم، وكان ابن حسون يترأس الحضرة ولا تعمل إلا بوجوده، ويروى أنه لم يكن يتحرك، بل يتأثر بالسماع وهو جالس، وكان يطرب للألحان التي اعتاد الموسيقيون أن يعزفوها في المناسبات، وهذا من ذوقه الرفيع رحمه الله، فقد كان آدميا يحس ويشعر لا كالحيوان الأعجم كما قال المنجور في حق شيخه الونشريسي..
من أشهر تلاميذ الشيخ عبد الله بن حسون المجاهد الكبير محمد العياشي المالكي (تـ 1051هـ/1641م) ومحمد سعيد العتابي (تـ 1032هـ/1623م) المدفون بجوار شيخه بن حسون بمدينة سلا وعليهما الآن بناء واحد ودربوز واحد، ومحمد بن محمد الواوزغتي (تـ 1062هـ) المدفون بواويزغت –بين بني ملال وأزيلال- ويعرف محليا بسيدي امحاند أومحند، ومحمد بن أبي بكر الدلائي شيخ الزاوية الدلائية (تـ 1046هـ) وأحمد بن محمد ابن عطية (تـ 1015هـ/1607م) ومحمد ابن محمد ابن عطية (تـ 1052هـ/1643م) ومحمد القجيري، صاحب الطريقة القجيرية (تـ 1046هـ)، له زاوية بالرباط دفن بها المؤرخ الأديب بوجندار، وعبد الله السائح (تـ 1076هـ) وأحمد السائح والحسن بن علي ابن أحمد بن موسى السملالي ويوسف بن عابد الإدريسي الحسني الفاسي (ولد في حدود 966هـ/1559م) وفاطمة بنت عمر الفشتالي (تـ 1045 هـ) وعلي بن أبي المحاسن يوسف الفاسي (تـ 1030هـ) أما من أخذوا واسطة فكثر متفرقون في كل أرجاء المغرب منهم: أحمد الطالب القصري (1072/1662م) الذي أخذ عن محمد بن سعيد العتابي عن ابن حسون، وسيدي عبد القادر الفاسي (تـ 1090هـ) الذي أخذ عن محمد القجيري عن عبد الله ابن حسون، وعلي ابن عبد الرحمن الدرعي 1090هـ/1679م الذي أحذ عن محمد بن محمد الواوزغتي عن ابن حسون..
وأخبار الشيخ ابن حسون موجودة في كتب التراجم كـ”صفوة من انتشر” و “درة الحجال” للإفراني و “المحاضرات” لليوسي الذي قال كلاما كبيرا في حق ابن حسون، و “نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني ” لمحمد بن الطيب القادري ” و “سلوة الأنفاس” لمحمد بن جعفر الكتاني…
وأريد في هذا المقام أن أشير إلى مسألة -أظنها مغفلة في أجندة البحث التاريخي المغربي المعاصر- وهي إسهام علماء البوادي والجبال والمداشر النائية في الحياة العلمية والفكرية والثقافية للمغرب، والاتصال العلمي والصوفي بين علماء وصلحاء الجبال وعلماء الحواضر الكبرى كفاس والرباط وسلا ومكناس..
فنحن نرى في ترجمة الشيخ ابن حسون أنه أستاذ علمين من أعلام منطقة جبال الأطلس بالقرب من سهل تادلة؛ يتعلق الأمر بكل من محمد بن سعيد العتابي (نسبة إلى آيت عتاب بإقليم أزيلال) ومحمد بن محمد الواوزغتي (سيدي امحاند أومحاند)، هذا الأخير الذي سيتعلم على يديه علم آخر هو علي بن عبد الرحمان الدرعي الذي لازمه بواوزغت بعدما استقر بها الشيخ الواوزغتي بعد عودته من سلا، ومن تم ذهب إلى تاموجت حيث أسس زاويته، ومن تلاميذ علي بن عبد الرحمان الدرعي الفقيه عبد الله الحويشي الرباطي الذي كان أحد أقطاب مدرسة أبي الحسن علي العكاري، مجدد العلم بالرباط؛ إننا بلا شك إزاء سلسلة مباركة تربط أجزاء المغرب -حواضر وبوادي- عبر سلاسل انتقال العلم والصلاح وما يرتبط بها جدليا من عمليات عمرانية، وإن عملية التفكيك والتركيب التي أبرزنا بعض نماذج منها -بشكل جزئي وجنيني- لكفيلة في إعادة كتابة التاريخ الفكري للمغرب بشكل يصهر كل مكونات البلد ضمن سيرورة ثقافية واحدة نتج عنها الكيان الحضاري للمغرب زمانا ومكانا ومآلا..
أريد في الختام أن أنبه إلى وجود كتاب مخطوط يتكلم عن سيرة ابن حسون؛ إنه كتاب “المعرب الفصيح” للقاضي الشيخ محمد الهبطي الصغير الذي عاشر عبد الله ابن حسون في معهد المواهب بجبال الهبط، وخبره عن قرب، مما يجعل حديثه عنه ذا قيمة تاريخية وثقافية كبرى، ومن شأن هذا المخطوط أن يفيد في فهم ابن حسون وثقافة عصره..
توفي سيدي عبد الله بن حسون سنة 1013هـ/1604م بسلا، وبها دفن قرب شاطئ البحر المحيط غير بعيد عن الجامع الأعظم المبارك، وضريحه مشهور عليه بناء جميل أمر به السلطان مولاي إسماعيل العلوي؛ رحم الله عبد الله بن حسون وجازاه عن المغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..
-
شكرا على هذا البحث القيم
لكن ما ينقص هو نسب القطب الى آل البيت فهو شريف إدريسي حسني
شكرا
التعليقات