عبد الله بن إبراهيم التاسّافتي (2/3)
بعد مرحلة الطلب بكل من الأطلس وسوس ودرعة، تاقت نفس صاحبنا التاسافتي إلى مراكز العلم الكبرى بالمغرب: حاضرتي فاس ومراكش.
وإن قراءة رحلة الوافد تظهر أن مدارس مراكش كانت تعرف في هذا العصر نشاطا مهما، وكان الطلبة مغرمين بالدراسة إلى حد نشوب صراعات بينهم بسبب اختلاف الآراء. وكان العلماء بدورهم يتنافسون فيما بينهم تنافسا حادا، وقد مكنتهم سلطتهم العلمية والدينية من اكتساب سمعة حسنة في الجنوب المغربي..
إنه من الطبيعي إذن أن يجتذب هذا الجو طالبا شابا من وادي نفيس، جو توفره بقدم الجبل مدينة مراكش التي تذكره بها دوما مدينة تينمل القريبة من قريته. وبالفعل فقد كان بمراكش سنة (1118هـ/1706م). إلا أننا لا نعثر في رحلة “الوافد” على معلومات دقيقة حول الدروس التي تابعها التاسافتي بمدينة مراكش، ولا عن المدة الزمنية التي استغرقتها. لكن بما أننا نجده يتابع دراسته بفاس خلال السنة نفسها أي 1706، فإن الراجح أنه قضى سنتين من قبل بمدينة مراكش..
يقول علي صدقي أزايكو في مقدمة رحلة الوافد: “إن سنتين دراسيتين بمراكش تبدو قليلة في هذه الحالة، ولكن هي كل ما يمكن أن نقبله كفريضة. إن الأمر يتعلق بالسنتين (1116-1117هـ 1704-1705م)؛ لأنه في سنة(1111هـ/1700م). كان لا يزال صغير السن، وبالتالي فتنقلاته كانت مقتصرة على المناطق المجاورة لمسقط رأسه، وفي سنة (1118هـ/1706م) كان قادرا على مناقشة مواضيع علمية مختلفة مع فقيه مراكشي مر بدارهم بنفيس“.. وهذا يعطينا فكرة عن النبوغ الذي بدأ يظهر على التاسافتي في سن مبكرة.
لا يعطينا مؤلف رحلة الوافد، إلا معلومات قليلة حول إقامته بفاس، إلا أنه يخبرنا بأنه كان بفاس سنة (1118هـ/1706م)، وكان يسكن فيها، على ما يبدو بمدرسة مولاي رشيد، وهي المدرسة المعروفة بمدرسة الشراطين، أما الدروس فكانت تعطى بجامع القرويين المبارك..
من جهة أخرى يشير التاسافتي في رحلة الوافد إلى حدث مثير، وهو اهتمام العلماء بمحمد العالم ابن السلطان مولاي إسماعيل، وبمشروعه السياسي الذي كان يرمي الخروج على حكم أبيه، وهذا يعطي فكرة على معارضة علماء المغرب للسلطان المولى إسماعيل، مثلما حدث مع أبي الحسن اليوسي، ومع السادة الناصريين..
أما بخصوص إقامته بفاس، فالراجح أنها دامت سنتين على أكثر تقديرا، (1118 و1119هـ)، والدليل على ذلك أننا لا نصادف التاسافتي بعد قراءة الرحلة بأي مكان خلال سنة (1119هـ/1707-1708)، ونتيجة لذلك يغلب على الظن بأنه قضى هذه السنة، أو جزءا منها، بحاضرة فاس.
بدأ عبد الله بن إبراهيم التاسافتي دراسته الأولى بتاسافت، ثم سافر بعد ذلك إلى مراكش ثم إلى فاس. ولاشك أنه قصد هاتين الحاضرتين برصيد ثقافي محترم يمكنه من الاطلاع على الحركة العلمية في عاصمتي العلم آنذاك؛ وقد استكمل تكوينه فيما بعد، خلال فترات مختلفة في الطول، بمتابعة دروس في المراكز الأربعة التي كان يتردد عليها في الجنوب وهي تاسافت وسوس الأعلى وتافيلالت أيت تامنت وتامكروت.
اهتم التاسافتي بمجالات علمية متعددة، لكنه كان مشدودا بشكل كبير للدراسات التاريخية والآثار والمعادن والتنجيم.. ويبدو أن تاريخ الموحدين قد أخذ حيزا كبيرا من اهتماماته التاريخية، والغالب أن نشأته بمحاذاة مسجد تينمل، الذي يعتبر الأثر الموحدي الوحيد في وادي نفيس، كانت ذا تأثير فكري، ونفسي كبير في هذا الاهتمام الفريد؟ ويطرح المرحوم صدقي أزايكو محقق رحلة الوافد احتمال أن يكون التعليم الذي تلقاه التاسافتي ببلده كان يمجد التاريخ الموحدي..
لا يضيف مؤلف رحلة الوافد شيئا جديدا إلى هذا التاريخ في بعده السياسي العام، لكننا نجده يمدنا بمعلومات استقاها عن طريق التراث الشفوي. وهو الذي يلح على جمع مزيد من التاريخ الموحدي.. و بفضل الأجوبة التي تلقاها من محاوريه، نستنتج أن ذكرى الموحدين لا تزال عالقة بذاكرة الناس في عصره.
كان للتاسافتي اهتمام خاص بالآثار، ولاشك أن قربه من مسجد تينمل أو ما بقي منه على الأقل آنذاك، كان له مرة أخرى فضل كبير في هذا التوجه المبكر للبقايا الأثرية. لقد كانت الأشياء القديمة تلفت نظره أينما حل وارتحل، وهكذا نجده يهتم بوصف مدينة تينمل بشكل دقيق ومفصل، وكذلك الأجزاء الباقية من أسوارها..
سجل التاسافتي معلومات مهمة جمعها عن مدينة تامدلوت التاريخية بسوس، وهي مدينة كان لها دور كبير في التجارة الصحراوية، كما كان لها إشعاع علمي محترم.
وفي المكان المسمى أغفري بسوس الأعلى، نجد صاحبنا التاسافتي يحاول التأكد في عين المكان من المعلومات التي سمعها عن المكان المذكور من فم سيدي بوزيد التافينكولتي، وهذا دليل ملموس على ولع هذا الفاضل بالآثار بشكل لم يكن سائدا في عصره حتى عند علماء الحواضر.
نقرأ في رحلة الوافد أنه وفي تيزي بزاكورة زار التاسافتي أطلال قصبة قديمة وجد فيها على حد قوله مثل ما وجد في أغفري، من رماد وخيوط النحاس الأصفر والحديد وأدوات العمل التي يستعملها صانعوا الحلي، وفي تونس أصابه العجب من خرائب جزء من مدينة قابس، فسأل عن ذلك طالبا من أهل المدينة وسجل ما أخبره به.
اهتم التاسافتي كذلك بعلم التنجيم. يقول المرحوم علي صدقي أزايكو في مقدمة تحقيق رحلة الوافد: “قد تكون هناك دوافع متعددة، جعلت مؤلف الرحلة يهتم بالتنجيم ويكتسب عنها معلومات لا بأس بها. نذكر منها أولا ما لها من منفعة في المجال الديني. فبفضلها يمكن فعلا تحديد وجهة المحاريب في المساجد. ولذلك نجد أن مسألة القبلة التي أثيرت في الرحلة بمناسبة الحديث عن توجيه المحراب في مسجد تينمل نوقشت كثيرا من قبل المؤلف، ويستعمل كذلك في تحديد أوقات الصلوات الخمس. غير أنه يستعمل كذلك لأغراض أخرى كالتنبؤ بحدث سياسي مثلا، ومن أجل هذا الهدف التجأ إليه شيخ زاوية تاسافت وابنه عبد الله مرتين. وقد شارك المؤلف نفسه في العمليات التي أجراها من أجل ذلك، أستاذه الحيسوبي والفلكي، محمد بن على الصنهاجي. أولى هاتين الإشارتين تمت حينما بدأت جيوش المخزن تستعد للدخول إلى وادي نفسي. أما الثانية فإنها وقعت في الوقت الذي وصل فيه يزيد بودربالة الولتيتي إلى بلد إيداوزداغ وأعلن فيه رغبته في الوصول إلى الحكم.. وقد أثرت مسألة التنجيم هذه للاقتراب أكثر من شخصية التاسافتي، وإبراز جوانب تكوينه وميولاته العلمية بشكل شامل..
كان التاسافتي أيضا مولعا بعلم المعادن، مما يزكي عندنا تفرده في زمانه، وجمعه بين اهتمامات متكاملة. في مقدمة تحقيق رحلة الوافد لصدقي أزايكو إشارة إلى أن من بين الأسباب التي جعلت “الحركة” المخزنية بقيادة باشا مراكش عبد الكريم بن منصور التكني، تتحمل عبء غزو وادي نفيس، وجود معادن للفضة به يريد السلطان تملكه. هذا المعدن الذي يقول عنه التاسافتي في الرحلة: “هو معدن الفضة العجيب، حجره ثقيل أبيض يميل إلى الزرقة، مخلوط بالرصاص لا غير، أسهل في الذوبان، من حفر منه صاعا كبيرا من ترابه يخرج له منه خمسة عشر مثقالا فضة إسماعيلية دون الرصاص. فمن وجد ترابه فقط ظفر بحاجته”.
ويظهر الاهتمام الخاص بعلم المعادن عند صاحبنا التاسافتي، عند وصوله إلى أغبار بأعلى وادي نفيس، في الوقت الذي كان فيه هو وعائلته في طريقهم إلى المنفى، وبالفعل رغم الظروف الصعبة التي يعيشها آنذاك، هو وعائلته نراه يقوم-بشكل مثير للدهشة- بإحصاء شامل لجميع المواقع المعدنية الموجودة في وادي أغبار: أسيف ن ءيجاناتن وأسيف ن مسور. بل إنه عمل على إذابة شيء من تراب المعدن أخذ في عين المكان، قصد تقويم قيمته ومحتواه، وقد أخبره اليهودي الذي قام بالتجربة هو من صانعي الحلي المحليين بأن عملية التذويب صعبة جدا، نظرا لضعف الوسائل المستعملة؛ لأن فحم الخشب وهو الوسيلة الوحيدة المستعملة، لا يعطي بعض النتائج إلا بشكل جزئي.. المسألة إذن ليست اهتماما عابرا نظريا، بل خبرة ميدانية تنم عن مشروع كان يدور بخلد هذا الرجل الأمازيغي المثير للجدل..
لكل هذه الاعتبارات أقول بأن رحلة الوافد تستحق قراءات متعددة، فهي بالإضافة إلى معلوماتها الوافية حول التاريخ الموحدي، تعتبر مصدرا تاريخيا ثريا لأحداث منطقة نفيس في عهد المؤلف، وكذلك معطيات حول المجال والجغرافيا والثروات المعدنية…
يتبع في العدد المقبل..
أرسل تعليق