عبد القادر الفاسي
في مقالتي حول العلامة أبي الحسن علي اليوسي كنت قد ذكرت ما حدث له بفاس من ضيق وحرج من جراء المعاملة السيئة التي قوبل بها من طرف العديد من علماء القرويين، وقد كاد اليوسي يفقد مكانته بالمجمع العلمي الفاسي لولا تدخل عالم فاضل حصل الإجماع حول علمه وصلاحه ليفك النزاع ويصلح ذات البين، ويمكن اليوسي من الاستمرار في أداء رسالته العلمية، يتعلق الأمر بعلامة عصره الفقيه الموسوعي العظيم عبد القادر الفاسي..
ولد سيدي عبد القادر الفاسي زوال يوم الاثنين 2 رمضان سنة 1007هـ، الموافق 29 مارس 1599م، في القصر الكبير -أعادها الله إلى سابق عهدها- التي نشأ بها في حجر أبيه، فحفظ ما تيسر من القرآن وتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة وبعض العلوم الإسلامية كالفقه والحديث على يد أبيه، وتعلم القرآن وحفظه على يد المعلم سيدي غانم السفياني، ولازم القراءة على أخيه الفقيه أبي العباس، وقرأ على الفقيه سيدي محمد أزيات وسيدي محمد الرجاس وسيدي عبد القوي، وكلهم من فقهاء القصر (أنظر “فهرست عبد القادر الفاسي”، تحقيق محمد عزوز، مركز التراث الثقافي المغربي ودار بن حزم: 2003، ص 17). وفي رجب سنة 1025هـ/1616م، توجه عبد القادر الفاسي إلى مدينة فاس ونزل في المدرسة المصباحية، ولقد أكب سيدي عبد القادر على التعلم والجد والاجتهاد، وتحصيل الفوائد التي يهجر في طلبها النوم والرقاد، وتعلق قلبه بمجالس العلم وأماكن القراءة في وقتها وفي غير وقتها، فانتفع في أقرب مدة وحصل في الزمن اليسير من العلم ما لم يحصله غيره في الزمن الكثير.
قرأ سيدي عبد القادر الفاسي بجامع القرويين المبارك وتردد على مساجد فاس الأخرى ومدارسها العامرة بالعلم فقرأ على ثلة من علماء فاس الفضلاء نذكر منهم عم أبيه عبد الرحمن بن محمد وهو عمدته في العلم والعمل الظاهر والباطن، وقرأ على الشيخ العالم أبي النعيم الغساني، والإمام أبي العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني، وعلى العالم الكبير محمد بن أحمد الجنّان الغرناطي وقرأ على العالم الشهير عبد الواحد بن أحمد ابن عاشر أخذ عنه الشاطبية بالخصوص، وعلى العالم النحوي الكبير ابن الزبير السجلماسي، وحضر دروس عمه أبي حامد محمد العربي الذي أجازه إجازة عامة، ولازم أيضا دروس أبي الحسن علي ابن أبي القاسم ابن القاضي في كثير من أمهات النحو والرسم والعروض والحساب، وقرأ المنطق على الفقيه القاضي أبي الحسن علي ابن محمد المُرّيي، وجوَّد بفاس على الفقيه المقري محمد الخروبي، وأخذ العشر بنافع على يد أبي مهدي عيسى الشرقي، وعلى يد محمد بن أحمد السوسي..
وكان لعبد القادر الفاسي إلمام كبير بعدة علوم وخاصة علم الحديث والفقه واللغة والمنطق. وكان يعيش من كسب يده عن طريق استنساخ الكتب كصحيحي البخاري ومسلم، ويعتبر أحد العلماء المغاربة التي تُعرّف سلسلة روايتهم وأسانيدهم للحديث بسلسلة الذهب وهم، رضوان الجنوي الذي يروي عنه محمد القصار الذي يروي عنه سيدي عبد الرحمان الفاسي الذي يروي عنه سيدي عبد القادر الفاسي. ولقد تتلمذ على يد سيدي عبد القادر عدة أفذاذ ممن أصبحوا علماء كبار أثروا في ثقافة العصر مثل أبي سالم العياشي الذي أجازه عبد القادر الفاسي إجازة عامة، وعبد السلام بن الطيب القادري، وعبد السلام جسوس، ومحمد العربي الفشتالي وأحمد بن أبي يعقوب الولالي صاحب “مباحث الأنوار في مناقب بعض الأخيار”، وأحمد بن عبد الحي الحلبي، ومحمد العربي بردلة، ومحمد بن أحمد المسناوي، والصاعقة الحسن اليوسي..
جاء في فهرست عبد القادر الفاسي (ص 27-28) بقلم سيدي عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي بشأن والده: أنه قد ترادفت على سيدي عبد القادر الفاسي “صغيرا وكبيرا وأشار إليه جماعة من الأكابر منهم من شهد لعلمه، ومنهم من شهد لتقدمه على أهل وقته، ومنهم من اعترف بولايته منذ أول أمره، ومن شهد بفقد نظيره في الوقت، ومنهم من تطوف في الآفاق فلم يلق مثله ولا رآه ولا سمع به (…) كان رأي الكافة فيه، فكان ممن وضع له القبول في القلوب..”.
وأضاف عبد الرحمن الفاسي في ترجمته لوالده ضمن فهرست عبد القادر الفاسي المذكور (ص: 30): حدثني شيخنا الفقيه الثقة القاضي الخطيب أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن جلال عن شيخنا الفقيه الحافظ القاضي أبو العباس أحمد بن محمد الزموري رحمهما الله أنه سمع الشيخ سيدي عبد الرحمان (الفاسي) يقول: بين أقصى سوس والإسكندرية لا يوجد مثل عبد القادر هذا في زمانه، وكان الشيخ أبو سالم العياشي يقول: وأنا أقول مثل ذلك على كثرة ما لقي من المشايخ واستقصى أفاضلهم وأكابرهم، وكان يقول: “ما رأت عيني مثل الشيخ سيدي عبد القادر شرقا وغربا (…)، وكان عمه الإمام المحقق العالم المستبحر أبو حامد محمد العربي لا يألوا في وصفه بالتحقيق والتقدم والسبق في العلوم، وقال في بعض مكاتبته له: ولو لم تكن ابن أخي بل أقول ابني لسررت غاية السرور بوجود مثلك في علماء الإسلام فكيف وأنت مني في محل قلبي من جسدي فقرت بك عيني وروى بك زندي فلله الحمد على ما منح خصوصا وعموما من ذلك ونسأله سبحانه أن يديم لنا ما يقر أعيننا بك وأن يمنحنا بركة الأب الذي وعد بذلك في ذريته وأن يجعله مددا متصلا بجاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كنت كتبت هذا عن غاية العجل؛ لأني لم أعرف سفر حامله حتى كان في شروعه فيه وإلا فالمقام يقتضي الإطناب والحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده..
ومن النجباء الذين أجازهم شيخ الإسلام عبد القادر الفاسي تلميذه الشيخ العالم الرحالة أبي سالم العياشي الذي استجازه في خبر مشهور، فأجابه الشيخ الفاسي بإجازة بديعة مليئة علما وفوائد ودرر سلوكية وعملية، ومما جاء في نص إجازة عبد القادر الفاسي لأبي سالم العياشي: “وأجزت الفقيه المذكور إجازة تامة عامة وشاملة موصيا له ببذل المجهود، وفراغ الوسع في النظر والتثبت في الفتوى في دين الله، وأن لا يقطع فيما لم ينص عليه الشرع العزيز إلا ببرهان كالشمس، وأن يجعل الوقف حصنا له عند عدمها، وليحذر أن تكون همته مجرد الرواية والدراية ويهمل ما هو المقصود بالذات من الرعاية؛ فإن ذلك شأن من يطلب العلم للمباهاة والمطاولة على الأقران، وهذا العلم الذي يكسب النفس طغيانا وكبرا واحتقارا للغير، وليس من زاد الآخرة ولا من العلم النافع في شيء، وإنما العلم النافع الذي يصحبه الخشية لله، والتواضع لجلال الله، واحتقار النفس، وعدم الرضى عنها بحيث لا يستحسن شيئا من أحوالها، ولا يرى في الوجود أحقر منها، لمعرفته بقدره، وجهله بعاقبة أمره، وليستعن الإنسان على ذلك بالتفرغ من الشواغل وترك ما لا يعني وإيثار السلامة على غيرها كما قيل:
و قائلــــة ما لي أراك مجانبـــا أمورا وفيـــها للتجارة مربــــح
فقلت لها ما لي بربحك حاجة فنحن أناس بالســلامة نفرح
ولا يضع نفسه في المزاحمة على الدنيا والتنافس فيها وفي رياستها؛ فإن ذلك مذهب لنور العلم، مفسد للدين مكدر لصفو اليقين”.
ألا ترى معي أيها القارئ الكريم أننا إزاء بيان علمي أخلاقي ظاهره إجازة عبد القادر الفاسي لأبي سالم العياشي وباطنه رسالة علمية تربوية شاملة يشع نورها على العالم بفضل من الله؛ ذلك أن الحديث عن البرهان الذي هو كالشمس وفراغ الوسع في النظر، والتوقف عند غياب الدليل والتواضع وعدم المنافسة في رياسة الدنيا، وإيثار السلامة، هي الأخلاق والقيم التي تجعل من العالِم عالما حقا، وبذلك تنصلح أحوال العالم ويشع نور العلم الكوني ويتقلص الجهل إلى حدوده الدنيا وتتحقق المقاصد العليا للهدى ودين الحق؛ إن ما يبدو هنا ديباجة لإجازة هو في عمقه تقعيد لأسس ثقافة مغربية أرادها صاحبنا الفاسي عميقة وعظيمة حبا في الدين والوطن، ولا أظن قراءتي هذه مغرقة في التأويل وإنما تبنيناها ضمن مشروعنا التفكيكي التركيبي لعلاقة العلم بالعمران في التاريخ الفكري المغربي، وهو المشروع الذي يبين حين استجماع بعض عناصره على وحدة ثقافية فيما يخص مركزية العلم وأخلاقه في الاجتماع الإنساني المغربي..
أما الشخصية الصوفية للعلامة عبد القادر الفاسي فتتجلى حسب الدكتورة نفيسة الذهبي في كتابها “الزاوية الفاسية”، مطبعة النجاح الجديدة، 2001: ص 206: في الصلاح والعلم:”فقد كان زاهدا، معرضا عن الدنيا، لم يأكل الأحباس قط ولم يقبل العطايا الجزيلة التي عرضت عليه، فقد كان يتقوت من عمله في النساخة حتى استحق أن يوصف بأزهد العلماء في وقته” (بتعبير صاحب سلوة الأنفاس)، وأبرز ما تقدم به نفيسة الذهبي هذا الجانب هو وصف أبي سالم العياشي المجاز من طرف الشيخ الفاسي له بقوله: شيخنا المحقق، العارف المدقق، أورع أهل زمانه وأثبت أهل أوانه، (اقتفاء الأثر)، فسمة التحقيق طبعت سلوكه العلمي وأجوبته على كثير من إشكالات التصوف، كم أن سمة الزهد والورع ميزت معاملاته اليومية، أما الطابع العام للطريقة الفاسية في أيام عبد القادر الفاسي فهو طغيان الجانب العلمي.. إن ما تفضلت به الأستاذة الفاضلة نفيسة الذهبي ينسجم تمام الانسجام مع تأويلنا لما جاء في إجازة عبد القادر الفاسي لأبي سالم العياشي، ذلك أن رسالة الإمام عبد القادر الفاسي الكونية تعتمد التدقيق في العلم والزهد حتى في مال الأحباس ورفض “العطايا” والتكسب بالنساخة على الرغم من موقعه العلمي والمعنوي الكبير في فترة تحول مفصلي في المغرب السياسي تمثل في تركيز أسس العصر العلوي الأول وما رافق ذلك من ولاءات ومغريات ومنافسات..
ورغم هذه المكانة العالية التي حضي بها العلامة الفاسي؛ فإنه لما افترقت كلمة أتباع الزاوية الفاسية حول شيخ الطريقة، ثم لما التمسوا مشيخة الشيخ محمد بن عبد الله معن “نزل له صاحب الترجمة فخدمه ولازمه إلى وفاته جمعا للآراء ودفعا للمراء” حسب تعبير عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي في “تحفة الأكابر”، لكن المسألة في اعتقادي تبدو أكثر من جمع الآراء ودفع المِراء، ذلك أن صاحبنا الفاسي-ومرجعنا دائما إجازته لأبي سالم العياشي- يؤثر السلامة ويعشق الأدلة التي تشبه الشمس ويزهد في الدنيا والرياسة حتى ولو كانت مشيخة صوفية!! فتسليمه القياد للشيخ الكبير سيدي محمد بن عبد الله معن ينطوي على مقصدين: الأول هو تسليم أمر الطريقة الفاسية من جهة التربية إلى رجل فاضل من عيار محمد معن –وما أدراك ما محمد معن- والثاني الاستمرار في الرسالة العلمية التي نذر نفسه من أجلها، وهي تنطوي لا محالة على عمق تربوي وقيمي نفيس يتجلى في انصهار العلم والصلاح في نسيج كوني واحد بفضل من الله.. أليس عبد القادر الفاسي هو القائل في إجازته للعياشي: وليستعن الإنسان على ذلك بالتفرغ من الشواغل وترك ما لا يعني وإيثار السلامة على غيرها (..)، ولا يضع نفسه في المزاحمة على الدنيا والتنافس فيها وفي رياستها؛ فإن ذلك مذهب لنور العلم، مفسد للدين مكدر لصفو اليقين، وقد أحسنت نفيسة الذهبي حين استنتجت أن الطابع السائد على الزاوية الفاسية في زمن عبد القادر الفاسي هو الطابع العلمي..
ولابد من الإشارة إلى الدور الاجتماعي الذي قامت به الزاوية الفاسية أيام عبد القادر الفاسي، الذي رغم تعرضه للأذى صبر وأظهر مرونة كبيرة كانت سببا في كسب قلوب الناس وجذبهم لمدرسة العلم والصلح، وتذكر نفيسة الذهبي في كتابها (ص:211) أن عبد القادر الفاسي شارك في فك الأزمة التي تسببت فيها السيول القوية بفاس عام 1664م وأدت إلى تحطيم قنطرة الباب الجديد ورحبة التبن وعدد من المباني، ولما بلغ الماء معظم الأزقة والمساجد وأخذ الذعر يذب في الأنفس خرج الشيخ الفاسي للإسهام في التخفيف عن هموم الناس..
وإننا ندرك قيمة رجل كسيدي عبد القادر الفاسي بشكل أعمق وأشمل حينما نطلع على ما خلفه من مؤلفات في فنون عديدة منها: “فهرسة” جمعها ابنه عبد الرحمان: مخطوط بالخزانة الوطنية ك 1254/13، ونشرها محمد بن أبي شنب الجزائري في باريس عام 1907، وأعيد طبعها سنة 2003 بتحقيق الفاضل الأستاذ محمد عزوز “المركز الثقافي المغربي ودار ابن حزم”. وله “إجازة مخطوطة” في نفس الخزانة ك 1427، ونسخة أخرى مخطوطة بدار الكتب المصرية في القاهرة تحت رقم: 181، وله في الفقه “نوازل” نشرت بالمطبعة الحجرية بفاس في 2 ج، دون تاريخ. وله أيضا مؤلف طريف ينم عن مشاركة واتساع أفق “في الرد على زاعم ملكية وادي مصمودة” مخطوط في الزاوية الناصرية بتمكروت تحت رقم 2572/2، وله”نوازل صغرى” نشرت عام 1301هـ، بالمطبعة الحجرية في فاس1(انظر خالد الصقلي: سيوطي زمنه عبد الرحمان عبد القادر الفاسي الفهري (1040-1096هـ) “أسرته، حياته، ومؤلفاته” مجلة الدوحة المغربية العدد3، ص: 109-138، الرباطـ 1418-1419هـ/1997-1998م. وللشيخ الإمام عبد القادر الفاسي”رسالة في الإمامة العظمى” وهو كتاب في “السياسة الشرعية”.. وقد ترجم لعبد القادر الفاسي كل من محمد مخلوف في طبقات المالكية، وعبد الحي الكتاني في فهرس الفهارس، ومحمد بن جعفر الكتاني في سلوة الأنفاس، والقادري في نشر المثاني، والتقاط الدرر، والزركلي في الأعلام وغيرهم..
وقد ألف عبد الرحمان بن عبد القادر الفاسي كتابا بعنوان “تحفة الأكابر بمناقب الشيخ عبد القادر” “مخطوط في الخزانة الوطنية والحسنية بالرباط”، وقد نشر جزء منه بعناية محقق فهرسة عبد القادر الفاسي الأستاذ محمد بن عزوز، ولعبد الرحمن الفاسي كتاب “ابتهاج البصائر فيمن قرأ على الشيخ عبد القادر”، وهو كتاب يجهل مصيره حسب خالد الصقلي في مقاله السابق الذكر.
توفي سيدي عبد القادر الفاسي يوم 8 رمضان عام 1091 الموافق 2 أكتوبر 1680م بفاس ودفن بزاويته التي تقع في حي القلقليين وفي المكان الذي يلقي بها دروسه العالية المستوى، رحمه الله وجازاه عن الإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..
-
اشكرك سيدي الدكتور جمال بامي على هذه الدراسة في علم من اعلام المغاربة الذين تركوا لنا ارثا طيبا يجب ان نعض عليه بالنواجد.
اذا سمح الدكتور ان يجيبنا على بعض الاسئلة للبحث:
هل هناك دراسات اكاديمية افردت الشيخ عبد القادر الفاسي بالدراسة والبحث؟
_ وما هي انواعها؟
ومن اصحاب هذه الرسائل اوالدكتوراة؟
وهل هناك دراسات كلامية في فكر الشيخ عبد القادر الفاسي؟
واي مدرسة بنتمي اليها الشيخ عبد القادر الفاسي؟
التعليقات