1- التزكية والتربية
ج- تكوين فرد صالح مُصلح داخل مجتمعه
إن الصوفية المغاربة أخذوا على عاتقهم مشعل الإصلاح، وجعلوا مشروع إصلاحهم ينطلق من النفس والقلب؛ إذ هما مدار الصلاح أو الفساد، مصداقا لقوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” [الرعد، 12] وقوله صلى الله عليه وسلم: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”[1]، كما أن القلب هو محط نظر الله تعالى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ”[2].
فأساس كل إصلاح ومنطلقه هو القلب والنفس، ولا نجاح لدعوة لا تهتم بهذين العنصرين في برنامجها الإصلاحي، ومن هذا المنطلق عمل الصوفية على تأهيل الفرد ليكون صالحا ومصلحا؛ وذلك عبر تربيته تربية صالحة سليمة متوازنة ومنسجمة مع واقعه وروح عصره، ومرتبطة بحاجيات ومتطلبات مجتمعه، بحيث تجعله قادرا على التعامل مع محيطه بكل إيجابية وفاعلية، غير منعزل أو متهرب من واقعه سواء خيره أو شره حلوه أو مره، وهذا هو معنى قولهم: “الصوفي ابن وقته”.
وكثيرا ما ارتبط الصلاح والولاية في تاريخ المغرب بالصوفية؛ لأنهم يمثلون الجانب السامي من التدين ألا وهو مقام الإحسان، ومفهوم الصلاح أو الصالح مفهوم عميق وخطير، فهو عبد من عباد الله تحقق بالإيمان الراسخ والامتثال لأوامر الله ورسوله والتحقق بهما ظاهرا وباطنا، مع دعوة الناس إلى نهج مسلك الصالحين، وذلك بالتربية والتزكية حتى يتحققوا بهذا الوصف، فما جدوى وجود أهل الصلاح وليس لهم أدنى تأثير على المجتمعات!
إن أصل المعضلة هي الخلط بين الوسائل والأهداف، فمثلا الصلاة والزكاة والصيام والحج ما هي إلا وسائل، الهدف منها خلق إنسان صالح في المجتمع، أو قل إذا لم تثمر هذه العبادات على أرض الواقع فهذه الوسائل لم تحقق بعد مقاصدها، ويمكن أن تكون قوالب فارغة لا حياة فيها.
فمثلا عبادة الصلاة: عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا” قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: “أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا”[3].
فهذا الحديث يدل دلالة واضحة أن الصلاة لم تثمر ذلك المقصد الذي من أجله شرعت، قال تعالى: “إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ” [العنكبوت، 45] بمعنى أن تمت خللا جوهريا منع من آداء وظيفتها؛ وبالتالي جعل الله عمل المخل بتلك الأوصاف هباء منثورا.
أما عبادة الصيام: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”[4].
والمعنى متحقق كذلك في هذا الحديث، فما فائدة أن تكون صالحا مع نفسك وأنت غير مُصلح، ولا يتقي الناش شرك!
ونفس الأمر مع الإنفاق: قال تعالى: “قُلْ اَنفِقُواْ طَوْعًا اَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ” [التوبة، 53].
هذه العبادات هي أركان الإسلام؛ إن لم ترافقها عبادات تعاملية صحيحة لن نستطيع قطف ثمارها، والعبادات التعاملية عبارة عن علاقة الإنسان بمحيطه ومجتمعه وغيره، وهذا يطرح علينا سؤالين هامين وهما: هل الصوفية يهتمون بالعبادات التعاملية بقر اهتمامهم بالعبادات التعبدية؟ وهل للصوفية دور في الإصلاح؟ هذا ما سنجيب عنه في المقالات الآتية إن شاء الله تعالى.
يتبع..
————————————————-
1. صحيح البخاري، كِتَاب: الْإِيمَانِ، بَاب: فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ.
2. صحيح مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه، رقم الحديث: 2564.
3. سنن ابن ماجه، كتاب: الزهد، باب: ذكر الذنوب، رقم الحديث: 4245، 2/575.
4. صحيح البخاري، كتاب: الصوم، باب: من لم يدع قول الزور والعمل في الصوم.
التعليقات