Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

شرائط الدعاء.. (2)

يقول عز وجل في محكم كتابه العزيز: “اَدعوا ربكم تضرعا وخُفيةً اِنَّه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الاَرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا اِن رحمة الله قريب من المحسنين” [الاَعراف، 54-55].

لا يعني شرط الخفية في الآيتين النهي عن الإعلان بالدعاء. فهذا خطأ؛ لأن الني صلى الله عليه وسلم دعا علنا غير مرة. والصواب إذن بالدعاء بالجهر والإخفاء. أما ما ورد من النهي عن الجهر؛ فإن المقصود به النهي عن الجهر الشديد الخارج عن حد الخشوع. والملاحظ أن جملة “إنه لا يحب المعتدين” وقعت موقع التعليل للأمر بالدعاء المتصف بشرطي التضرع والخفية. وفي هذا التعليل إطلاق المحبة وصفا لله تعالى، ويلزم عن ذلك اتصاف المحبوب بما يرضي المحب، نعني أنه يلزم عن إطلاق المحبة وصفا لله تعالى رضى المحب عن محبوبه إذا دعاه، وهو مقيد بشرطي التضرع والخفية. أي ادعوا ربكم؛ لأنه يحبكم ولا يحب المعتدين. وإن هذا التعليل مماثل لما ورد في قوله تعالى: “وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين” [غافر، 60][1]. ولما دل مشهد التضرع والحفية على الخشوع والانكسار لله تعالى، فقد اقتضى من الداعي تصرفا لائقا وسلوكا صالحا يبتعد به عن كل ما من شأنه الإفساد في أرض الله تعالى بعد أن أصلحها لقوله تعالى: “ولا تفسدوا في الاَرض بعد إصلاحها“.

وهكذا فإن عدم مراعاة هذين الشرطين يوقع الداعي في مهاوي الاعتداء بدليل قوله تعالى: “إنه لا يحب المعتدين“. المعتدي هو الذي يرتكب المحظور، ويتجاوز ما هو محدود. ويمكن تصوير ذلك في صور متعددة:

1. منها ما هو متعلق بالدعاء ذاته كالجهر الكثير والصياح، وكالدعاء بما لا يمكن، وبما ما لا يستحق كأن تكون له مرتبة نبي، وكالدعاء بما هو من قبيل الشطط بأن يدعو في محال، أو بأن يدعو معصية، وكأن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، وكأن يدعو على المؤمنين بالخزي والعار[2].

2. ومنها ما هو متعلق بالسعي فسادا في الأرض بعد أن أصلح الله تعالى نظام الوجود فيها. والحق إنه لجدير بالنفس الإنسانية التي تتضرع وتتخشع أن تكون صالحة فلا تفسد في الأرض بعد إصلاحها. ولعل من أبرز أمثلة ذلك إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء، وإفساد أحوال وأنظمة المجتمع بالغصب والسرقة وسائر أنواع الاحتيال، وإفساد الدين بالكفر، وإفساد الأعراض بالزنا والقذف واللواط، وإفساد العقول بالمسكرات. قال الرازي: “المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة: النفوس، والأموال، والأنساب، والأديان والعقول“. فقوله: “ولا تفسدوا” منع عن إدخال ماهية الإفساد في الوجود، والمنع من إدخال الماهية يقتضي المنع من جميع أنواعه وأصنافه فيتناول المنع من الإفساد في هذه الأقسام الخمسة”[3].

2. الخوف والطمع

الخوف من الله تعالى بسبب قصور أعمال الإنسان، والطمع في فضل الله تعالى وإجابته بسبب أن رحمته سبحانه قريبة من المحسنين من عباده. وهكذا إن من عرف فضل الله سارع إلى رجائه، كما إن من عرف عذابه خافه. وقد جمع الله بين الشرطين في كثير من آيات كتابه المجيد. من ذلك قوله تعالى: “نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الاَليم” [الحجر، 49-50] والخوف مراتب فمنه ما هو ضعيف يخطر على القلب ولا يؤثر في الظاهر والباطن. ومنه ما هو شديد قد يبلغ بصاحبه مبلغ القنوط، ومنه ما هو قوي يوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة. وكما أن الخوف مراتب؛ فإن الرجاء مراتب: منه ما هو ما هو قوي ومجرد من العمل حتى يحس صاحبه بالأمان من الله تعالى، وها مذموم محرم، ومنه ما هو ما هو قوي ومسدد بالعمل  بطاعة الله وترك معصيته، وهذا محمود مرغب فيه. ومن الرجاء ما هو مقترن بالتفريط والعصيان، وهذا غرور.

ومهما يكن من أهمية هذين الشرطين في الدعاء خاصة، وفي الحياة الإسلامية للمؤمنين عامة. فالمقرر عند كثير من علماء الإسلام. أنه يستحب للعبد أن يكون طول عمره يغلب عليه الخوف ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات، وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله[4].

يتبع في العدد المقبل..

———————————

1. في الآية تعريض بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين، وأنه لا يستجيب دعاء الكافرين. ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج: 8. ص: 173.

2. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ج: 7، ص: 226 وزاد المسير، ج: 3، ص: 215.

3. تفسير مفاتيح الغيب، ج: 14، ص: 119.

4. التسهيل لعلوم التنزيل ج: 2، ص: 35.

أرسل تعليق