سيدي أو سيدي.. (2)
يرمز لقب ابن واندالوس في الغالب إلى أن أصول أسرة صاحبنا أبي محمد صالح بن واندلوس المعروف بسيدي أو سيدي أندلسية، كانت قد استقرت بتارودانت قبل القرن السادس، ضمن من قدموا إلى سوس مع حركة التجارة الصحراوية في عهد المرابطين. وكان المرابطون قد استعانوا بالعناصر الأندلسية في الوظائف الإدارية والسياسية والعسكرية والثقافية، وأنزلوهم في مختلف المناطق والحواضر، ومن بينها حاضرة سوس تارودانت.
وكنت في إحدى زياراتي لمحروسة تارودانت في أواسط التسعينيات قد وقفت على حي في المدينة القديمة يسمى حي “إندلاس“، ويعني حي الأندلسيين. والطريف أن بعض بيوت هذا الحي مصبوغة بالأبيض والأزرق كما هي عادة الأندلسيين بكل الحواضر المغربية. وهذا دليل على أن التأثير الأندلسي قد تجاوز الحواضر التي طُبِعت به مثل تطوان وشفشاون والرباط وفاس ليصل إلى جنوب المغرب، كما هو الحال هنا مع عاصمة سوس الثقافية.
ومعلوم أن العنصر الأندلسي نزل بحاضرة سوس منذ عهد الملثمين كجنود وموظفين إداريين للقيام بمهام الإشراف على شؤون الإدارة والأمن العام، وتحصيل الجبايات، ومنهم من صدر في حقهم النفي إلى سوس[1].
عرفنا أن ابن الزيات انفرد بالترجمة لسيدي أو سيدي، وجملة ما أورده ابن الزيات التادلي عند هذا الرجل الفاضل هو عبارة عن مسار عام لرحلته مند خروجه من تارودانت شابا ممتلئا حماسا وإصرارا على القيام بالإصلاح عبر تغيير المنكر، ومحاربة مظاهر الفساد والانحراف الأخلاقي، إلى أن رجع إلى تارودانت في أواخر أيامه شيخا من شيوخ التصوف زاهدا في الدنيا بعدما تجول في أنحاء المغرب والمشرق.
ومع أنه لم يرد عند ابن الزيات ما يلقي الضوء على نشأة ابن واندلوس الأولى وسياقها الاجتماعي والثقافي في ظل الحياة العلمية والفكرية والثقافية التي كانت تعيشها تارودانت آنذاك، فيمكن الاستئناس بما أورده ابن الزيات التادلي في “التشوف” لتوضيح بعض الجوانب عن أسرته وشخصيته..
قد يكون جد أسرة أبي محمد صالح بن واندلوس أو أبوه من الطارئين الذين استقرت بهم الأحوال بالمدينة، واتخذوها موطنا للاستقرار؛ ويستنتج أحمد بزيد في كتابه “سيدي أو سيدي” (منشورات نادي الغد الأدبي بتارودانت، 2002) من كون أبي محمد صالح بن واندلوس أسود اللون[2]، معناه أنه ابن أمة من الإماء السودانيات المستجلبات مع قوافل تجارة الرقيق، انتهت بها الرحلة إلى تارودانت في كنف هذه الأسرة الأندلسية المستقرة بها، وهناك ولدته أمه نتيجة التسري، وقد كانت تارودانت في هذا العهد مركزا نشيطا للعنصر السوداني إلى الشمال. ومعلوم أن تملك العبيد والإماء لا يتاح إلا لذوي اليسار والمكانة المرموقة في المجتمع، مما يرجح معه أن تكون أحوال أسرة المترجم –الأندلسية الأب– ميسورة ومكانتها معتبرة، كان لها دور ما في حياة المدينة نجهله اليوم.
كما أن قيام أبي محمد بن واندلوس بتكسير خوابي أنزير[3] التي اختزنها أبوه، وإهراق محتوياتها، يدل على تشبع بتعاليم حركة التطهير الديني الأخلاقي والمذهبي التي قام بها خلفاء المهدي بن تومرت لإزالة كثير من الظواهر الاجتماعية والأخلاقية الفاسدة -حسب رأيهم- والمنتشرة في المجتمع المرابطي، في سياق تطبيق مبدأ ابن تومرت في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهذا ما يجعلنا نرجح تأييد بن واندلوس لثورة الموحدين المذهبية والسياسية.
ويرجح أحمد بزيد في كتابه “سيدي أو سيدي” أن تكون لأبي محمد صالح أسباب ذاتية أخرى يعكسها الشعور بالظلم الاجتماعي والاحتقار الدوني الذي كان يجده في نفسه، بسبب سواد لونه وكونه ابن أمة أنجبته بالتسري، فتولد في نفسه شعور مضاد لهذا الواقع الاجتماعي، وباعتبار هذه العوامل والمساوئ ممهدة لهذه الوضعية الاجتماعية التي وجد نفسه فيها، إنسانا مهمشا، يعيش في مناخ تسوده النظرة الفوقية إلى من في وضعيته من أبناء العبيد والإماء..
يقول أحمد بزيد في كتابه: “وموقف أبي محمد صالح بن واندالوس لا يتأتى لأمثاله تحت طائلة الجهل والأمية والرق، وإنما يتاح في وسط تحيطه ظروف التعلم والتنوير، أتاحت له الحصول على نصيب من العلم والمعارف الدينية التي لا بد وأن يتلقاها على يد مدرسي وفقهاء المدينة، وحتى يستطيع أن يكون موقفا واضحا على أساس شرعي يفرق بين الحلال والحرام من قبل أن يخرج من تارودانت، وإلا فمن أين يأتيه الرصيد العلمي الذي سيستغله في حلقات الدرس في أغمات ومراكش بعد انتقاله إليها؟ فيدرس ويناقش الشيوخ الذين يجلس إليهم، ويحاور رفاقه في الأخذ… في سياق حياة أضرابه الأفاضل السوسيين الذين ارتحلوا من قبائلهم مسلحين بزاد علمي يتيح لهم متابعة الدراسة والتكوين سيما وأنه انتقل من حاضرة سوس العلمية والسياسية والحضارية في ذلك العهد..
ذكر ابن الزيات التادلي في التشوف أن أبا محمد صالح بن واندلوس لما كسر خوابي عصير السكر، عاقبه أبوه بالضرب وحبسه في البيت لفترة من الزمن، تأديبا له على فعلته، ولما عفا عنه بتسريحه من حبسه التأديبي، أبى أن يخرج من سجنه حتى يدخل المدينة قوم يضفرون شعورهم، والمقصود هم (الغز) وهم جنس من أتراك مصر والشام، استعان بهم الموحدون في عهد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، في منتصف القرن 6هـ- 12م[4]، وتحقق دخولهم إلى المغرب في هذا العهد. وضمنهم يعقوب المنصور إلى جيشه النظامي، وإعطاءهم امتيازات[5]، وتكونت منهم فرقة في الجيش عهد دولة الموحدين والمرينيين.
ويحتمل أن يكون دخول الأغزاز إلى تارودانت في أثناء الحملات العسكرية المتكررة التي وجهت إلى تارودانت بشكل دوري منتظم خلال فترة حكم أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن التي كانت بين 558هـ 580هـ/ 1163-1184م[6] مما يرجح أن يكون خروج صاحبنا سيدي أوسيدي من سجنه ومغادرة تارودانت في غضون العقد السادس أو السابع من القرن السادي، وعمره يتراوح ما بين 15 و20 سنة..
ترك أبو محمد صالح بن واندلوس حاضرة تارودانت وهي أكثر ما تكون بهجة وجمالا، ورخاء واتساع أحوال، في وسط سهل سوس باتساع عمارتها، وكثافة سكانها وكثرة خيراتها، بنشاطها التجاري في وسط شبكة الطريق التجارية، من وإلى الصحراء. حتى أضحت أواخر القرن السادس مأوى كل غريب من التجار، واشتهرت في مختلف الأنحاء بتجارة مادة السكر والمنتوجات الفلاحية التي بلغت غاية ازدهارها، إلى صناعة التعدين والنسيج الرفيع، وكانت بذلك قبلة مختلف العناصر البشرية من تجار وحرفيين وطلاب الرزق والعلم من سجلماسة والصحراء وأغمات ومراكش والأندلس، وغيرها من جهات المغرب..
وانتظمت حياتها، وتألقت نضارة حضارتها، وبهجة الحياة فيها، حتى وصف سكانها في هذه الفترة بأنهم كانوا أكثر سكان المنطقة تحضرا وأرقى ذوقا وعناية بأناقة المظهر في التألق واللباس وأساليب صناعة الأطعمة والحلويات.. ورغم هذه الإشارات الواضحة، والمعلومات المفيدة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والحضارية التي لخصها أحمد بزيد في كتابه حول “سيدي أو سيدي” عن الشريف الإدريسي وعبد الواحد المراكشي، وابن عذاري، وغيرهم فإن أيا من هؤلاء الذين اعتمد عليهم لم يشر في سياق امتداح أوجه النشاط الذي استوعبته تارودانت في النصف الثاني من القرن 6هـ، إلى الوضعية العلمية والحياة الثقافية القائمة بها في نفس الفترة، باستثناء الإشارة الوحيدة الواردة عند الإدريسي حول الخلاف المذهبي القائم بين سكانها وأهل حصن (تين واينان) من بقايا المرابطين، الذين كانوا في صراع دائم معهم ، وهذه إشارة تفيد أن هناك نشاطا علميا وثقافيا في ظل هذا الخلاف المذهبي على يد فقهاء المدينة الذين يفترض فيهم ينافحوا عن المذهب وينشروا قواعده بالدرس والتأليف والنقاش..
هكذا كانت حاضرة تارودانت عندما غادرها أبو محمد بن واندلوس في رحلته الطويلة، صحبة أحد أبناء بلدته، الذي لم يفصح ابن الزيات التادلي عن اسمه..
فيما يلي سنتعرف على بعض جوانب هذه الرحلة المباركة التي قام بها صالح تارودانت أبي محمد صالح بن واندلوس..
يتبع في العدد المقبل..
——————————————————
1. أحمد بابا التمبوكتي نيل الابتهاج، ص: 59 ك، الأولى، أحمد المقري النفح، ج: 2، ص: 259، الإعلام للمراكشي، ج: 1 ص: 165 وج: 3 ص: 144، ابن الزيات التادلي : التشوف ص: 98.
2. التشوف، ص: 347.
كان من عادة سكان المدينة، كما يخبرنا الإدريسي، أنهم يعتصرون قصب السكر، ويخزنونه في الأواني الفخارية (خوابي قدور..) وهو حلو جدا.
3. ومسكر جدا، انظر وصف شمال إفريقيا، ص: 39. ط. الجزائر.
4. الأنيس المطرب، ص:213. ط المنصور.
5. عبد الواحد المراكشي المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص: 168-191.
6. ابن صاحب الصلاة المن بالإمامة، ص: 23 تحقيق التازي.
أرسل تعليق