سيدي أو سيدي.. (1)
آثرت أن أعنون المقالة التي أخصصها للفقيه الصوفي السوسي أبي محمد صالح بن واندالوس بسيدي أو سيدي باعتباره اللقب الذي اشتهر به، ولا يذكر في محروسة تارودانت إلا به، وهو على كل حال صاحب “المدينة” كما يقال..
لم يكتب لسيدي أو سيدي أن يترجم بوفرة كباقي الصلحاء الكبار ببلاد المغرب كأبي يعزى، وبوشعيب السارية ومولاي عبد الله أمغار وأبي مدين الغوث وعبد السلام بن مشيش، إذ نجد ابن الزيات التادلي في التشوف ينفرد بالترجمة لهذا الفاضل الذي طبع التاريخ الروحي لتارودانت بإضافة نوعية…
ولقد عثرت على كتيب نفيس كتبه الفاضل أحمد بزيد الكنساني سماه سيدي وسيدي: أبو محمد صالح بن واندلوس صالح تارودانت، فوجدت الدراسة قيمة انطلق مؤلفها من ترجمة يتيمة في التشوف وتفرع منها تنقيبا وتحقيقا وتدقيقا، واستدعاء لمعاصري سيدي وسيدي في السياق الثقافي والسياسي والتاريخي العام حتى تمكن من إضاءة جوانب من حياة ومسار صالح تارودانت سيدي أو سيدي..
يقول أمين جمال في مقدمة كتاب سيدي أو سيدي لأحمد بزيد: “يصدر هذا الكتيب النفس في سياق المسح العلمي الميداني لملامح وخطوط وجه سوس الحضاري في المجال الفقهي والأدبي والفني والصوفي، ويعكس بجلاء من خلال المنهجية التي ارتضاها الباحث مستوى التحري والتتبع والاستقصاء للوثائق الدالة، وتسقط الأخبار من مضانها وعلى مستوى السبك الحدثي والتنضيد الإخباري والنفاذ الدلالي“.
ويبرز أمين جمال أهمية المنحى الصوفي في حياة صالح تارودانت كما سعى إلى إبراز ذلك مؤلف كتاب سيدي أو سيدي بقوله: “وهذا المنحى الصوفي العميق الذي نعكسه في حياة الشيخ أبي محمد صالح بن واندالوس (..) يأتي واضحا في هذا الكتيب النفيس، لتأكيد حقيقة النزوع الروحي والصوفي المشكل للشخصية السوسية، كحلقة وإضافة مهمة ترصد حياة هذه الشخصية المتصوفة الشهيرة، ردا غير مباشر على الأوهام التاريخية، والقصور المعرفي عن هذه الشخصية، وعلى الأوهام التي ارتبطت بها من خلال تعاقب الزمن.. “.
قام أحمد بزيد في بداية دراسته بإبراز أهمية القرن (6هـ/12م) باعتباره يمثل مرحلة شديدة الأهمية في تاريخ المغرب الوسيط؛ فقد شهد المغرب خلال القرن السادس نشاطا علميا وفكريا واسعا.. فأثمرت العقول، وأينعت الأفكار، وازدهرت العلوم والفنون والمعارف الدينية والأدبية والفلسفية، وانتشر التأليف والتدوين وجمع الكتب واستنساخها[1]..
لقد كان الحاضن لهذا الازدهار العلمي دولة سياسية عظمى اقترنت بوفرة اقتصادية وتفوق حضاري، لكن هذا التفوق المادي والحضاري سيثمر بالإضافة إلى ازدهار العلوم العقلية والنقلية ازدهار التصوف وطرقه وطرائقه وعلومه..
وقد أحسن أحمد بزيد في ترجمته لسيدي أو سيدي إلى وضعه ضمن سياق معاصريه الذين ليسوا غير أقطاب التصوف خلال القرن السادس الهجري، وقد ساهمت هذه الطريقة المنهجية في إضاءة بعض جوانب حياة سيدي أو سيدي التي لم تكن لتتيسر بشكل موضوعي لغياب المصادر..
إن عصر سيدي أو سيدي إذن هو عصر أبي شعيب الدكالي الصنهاجي، المعروف بالسارية دفين محروسة أزمور (توفي 561هـ) وأبي يعزى بن عبد الرحمن، إيلا النور الهميزي (يلنور) (توفي 572هـ)، وأبي مدين الأندلسي الغوث (توفي 572هـ)، وعمرو بن هارون الماديدي السكتاني (توفي بعد 590هـ)، وأبي العباس الحباب المراكشي (توفي 292هـ).
في هذه الأجواء العلمية والروحية والحضارية سطع نجم أب محمد صالح بن واندالوس الروداني السوسي المعروف بسيدي أو سيدي دفين محروسة تارودانت..
يقول أحمد بزيد في كتابه سيدي أو سيدي (منشورات نادي الغد الأدبي بتارودانت، 2002): “في نفس العصر كانت بلاد سوس تشهد حركة علمية مذكورة لفضل عدو مراكز علمية مبثوثة في أرجائها، كانت كعبة الطلاب والمدرسين والعلماء، وشيوخ التصوف، والتجار، والسائحين.. وغيرهم من ذوي المقاصد والغايات، تستقبل الأجيال على توالي العقود والسنوات من الشرق والشمال والجنوب ليستكملوا تكوينهم العلمي الذي بدؤوه في مساقط رؤوسهم، ومدارس قبائلهم ليأخذوا فيها عمن تصدر للتدريس بها من كبار الشيوخ والعلماء، فيرجعون إلى مواطنهم متخلقين بأخلاق العلم والمعرفة والحضارة، والتنور بأنوار العلم والنضارة، متزودين بالكتب والإجازات في الآفاق، كثير منهم آثر الاستقرار في تلك المراكز واتخذها دار قرار واستقراره.
ففي هذا العهد كانت بلاد سوس في ما وراء الأطلس الكبير جنوبا، مجال نشاط إنساني متعدد الأوجه، بما فيه النشاط العلمي والدراسي الذي احتضنته مدارسه ومساجده في عديد من المراكز، تحدثت عنها المصادر بصوت خافت، انطلق منها كثير من الطلبة السوسيين والعلماء، متسلحين منها برصيد علمي كان أساس مساهمتهم في إمداد الحركة العلمية في مختلف الحواضر والمراكز.. “. وهذه مسألة طالما وقفت عندها في مقالاتي حول علماء المغرب، ومفادها أن ازدهار الحركة العلمية ببلاد المغرب مسألة شاركت فيها الحواضر والبوادي على حد سواء، ولا يمكن فهم العمق العلمي والحضاري لبلدنا المبارك إلى بالوقوف على سلاسل انتقال العلم المباركة وما ارتبط بها من معطيات تاريخية وفكرية ومجالية، وهذا مبحث شيق يعد بالكثير..
لقد كانت هناك مراكز متعددة في سوس خلال القرن السادس، ساهمت في تنشيط الحياة الثقافية، بما كان يسودها من نشاط علمي ودراسي، استفاد منه كثير من أبناء سوس الذين نزلوا في مختلف الحواضر المغربية وشمال إفريقيا ومصر والأندلس في هذا العهد، ويذكر أحمد بزيد في كتابه حول سيدي أو سيدي مراكز: أنسا، وهو مركز سكاني قديم العمارة، حافل النشاط شمال سهل سوس بتاريخه العلمي والسياسي[1]. والعمراني في هذا العهد، قبل أن ينزل به الشيخ عمرو بن هارون الماديدي، في مدشر (وأوسلاخت) قرب أولوز، حيث هناك للعبادة والتربية والتعليم والإرشاد، قصده شيوخ عصره فضلا عن طلبة العلم، وتألق نجمه بنشاطه الصوفي والعلمي الذي اندثرت بعد القرن 7هـ.
ومركز ماسة، وهو تجمع سكاني كبير، ومركز تجاري بحري قديم، ورباط مقصود من أهل العلم والصلاح قبل القرن 6هـ/12م، وهذا المركز غير بعيد عن مدرسة (أكلو)، التي كانت مركزا علميا كبيرا منذ أسسها سيدي وجاج بن زللو اللمطي، تلميذ أبي عمران الفاسي في صدر القرن 5هـ.. ومركز زاوية بني نعمان التي كانت مركز نشاط علمي وصوفي جنوب تزنيت قبل القرن 7هـ/ 13م، اندثرت معالمها العمرانية والعلمية في غمرة الصراع التاريخي بين قبائل جزولة، وقبائل المعقليين والحسانيين، بالإضافة إلى مراكز أخرى في سوس كانت موضع نشاط علمي خلال القرن، لكن أخبارها اندثرت وآثارها انطمست بسبب إغفال التدوين وإهمال المصنفين -بتعبير أحمد بزيد- مثل مراكز (كرسيف) و(تنملت) و(إفران) و(مسكينة) و (حاحة) و(تين إيمل) و (أولاد يحيى) و (أيت إيكاس) و(تالكجونت) و (تفنوت) و(أوناين) و(أيت وادجاس) و(هزميرة) وإيداوزال)، وغيرها..
ومن العلماء الذين ساهموا بحظ كبير في ازدهار الحركة العلمية بسوس خلال القرن السادس نذكر إبراهيم بن يحيى السملالي المسكيني : (توفي بعد 514هـ)، وأبو إسحاق إبراهيم بن القاسم التنملي: توفي 572هـ، وأبو عبد محمد بن الأمان الجزولي: توفي 586هـ، وسالم بن سلامة الروداني: توفي 589، وأبو بكر بن محمد بن عتيق الروداني: توفي 591هـ، وأبو محمد عبد الرزاق الجزولي: توفي 594هـ، وعثمان بن سعيد بن عبد الرحمان التنملي: توفي 605هــ، وأبو محمد يزركان بن محمد الجزولي، وأبو موسى عيسى الجزولي: توفي 607هـ، توفي في أزمور، في أثناء قيامه بمهمة كلفه بها الناصر الموحدي، ليلة السبت 13 شعبان عام 606هــ-1209م أو الذي بعده، ودفن بضريح أبي شعيب بأزمور، وإبراهيم عبد الله التهالي ويوسف الحرار، وعمر بن محمد الصنهاجي: توفي 622هـ، اشتهر بـ (ابن طوير الجنة) ويعرف بأبي الخطاب السوسي..
هذه هي البيئة العلمية والثقافية والروحية التي عاش فيها سيدي أو سيدي دفين تارودانت، وفيما يلي سأحاول التعريف بهذا السوسي الروداني الفاضل اعتمادا على التشوف لابن الزيات، وعلى الإضاءات المنيرة التي قدمها أحمد بزيد حول شخصية سيدي أو سيدي في كتابه المذكور…
يقول أحمد بزيد في كتابه سيدي أو سيدي: إذا سلمنا أن وفاة الشيخ أبي محمد صالح واندالوس كانت بعد عام 591هـ/1195م كما يقول ابن الزيات[3] فمعنى هذا أن ولادته كانت في إحدى سنوات القرن 6هــ أو أوائل القرن (7هـ)ـ على سبيل الاحتمال. وإذا افترضنا كذلك أنه عاش عمرا يتراوح ما بيت 65 و 80 سنة فإن ولادته قد تكون أوسط القرن ما بين 528 و550هـ على سبيل الافتراض، فتكون حياته قد امتدت ما بين نهاية النصف الأول من القرن السادس إلى صدر القرن 7هـ الذي يليه، طيلة عهد عبد المومن توفي سنة 558هـ وابنه يوسف توفي سنة 580هـ ويعقوب المنصور توفي 595هـ وابنه محمد الناصر توفي 610هـ..
وتعتبر الفترة التاريخية التي ولد فيها أبو محمد صالح كما جاء في كتاب أحمد بزيد من الفترات الحاسمة في تاريخ المغرب الوسيط، شهدت فيها البلاد انقلابا سياسيا ومذهبيا واجتماعيا قويا، في غمرة الصراع الموحدي المرابطي في منطقة سوس، وفي مناطق أخرى من البلاد فيما بعد، منذ أعلن المهدي بن تومرت دعوته، وأعلن الحرب على المرابطين حوالي عام 518هـ/ 1124م، واستمر هذا الصراع زهاء أربعين سنة إلى أن انتهى بجلاء المرابطين عن سوس وحاضرته تارودانت حوالي 535هـ، والقضاء على ثورة ابن هود الماسي عام 541هـ. وثورة جزولة المنضوية تحت قيادة يحيى الصحراوي وأبي بكر بن عمر عام 548هـ.. والراجح أن سيدي أو سيدي ولد خلال السنوات الأخيرة من هذا الصراع، في ظل مناخ سياسي واجتماعي جديد، تحكمه مبادئ ثورة المهدي المذهبية والسياسية، في كنف أسرته التي لا تحدثنا عنها المصادر بشيء عن أحوالها ومكانتها لمعرفة ظروف نشأة المترجم الأولى..
ويبقى أهم معطى نوعي مرتبط بترجمة صالح تارودانت سيدي أو سيدي التقاء ابن الزيات به في محروسة مراكش، وهو المصدر الوحيد الذي ترجم له، لكنه لم يستفد منه شيئا عن حياته وأخباره؛ لأنه كان كثير الصمت والإطراق. لكنه اتصل بأخباره عن طريق بعض فقهاء جزولة النازلين بمراكش في تلك الفترة، ولم يجمع كل ما يتعلق به من معلومات ممن اتصل بهم واستفاد منهم..
لم يهتم ابن الزيات بالجانب الاجتماعي من حياة سيدي أو سيدي، لكنه اقتصر على شخصيته الصوفية مبرزا نزوع المترجم إلى الزهد والتقشف.. وعلى الرغم من قيمة ترجمة ابن الزيات لصاحبنا سيدي أوسيدي، نظرا لتفردها، لكنها لا تمدنا بالمعلومات الكافية لوضع صالح تارودانت ضمن إطار اجتماعي وتربوي وثقافي واضح، ولولا الاستعانة بتراجم معاصريه، وبالأحداث السياسية والثقافية العامة خلال القرن السادس لما تمكنا من لملمة شتات المعطيات المتفرقة هنا وهناك..
يتبع في العدد المقبل..
————————————————
1. المعحب في تلخيص أخبار المغرب، عبد الواحد المراكشي، ص: 311. أحمد المقري: نفح الطيب، ج: 1. ص: 180-184-215.
2. رسائل موحدية، ص: 87. نشر وتعليق ليفي. بروفنصال.
3. ابن الزيات التادلي التشوف إلى رجال التصوف، ص: 347.
أرسل تعليق