سجلماسة المدينة العامرة المردومة.. (22)
إن سياسية اليسع وأعماله الكبيرة واعتبارا لامتداد حكمه لما يزيد عن 33 سنة (ما بين 174 هجرية 790 ميلادية -208 هجرية 823 ميلادية)، كان لها تأثير إيجابي على مدينة سجلماسة حيث عرفت خلال هذه الفترة استقرارا سياسيا وأمنيا ونهضة اقتصادية وهذا ما استفاد منه خلفه ابنه مدرار المكنى بالمنتصر الذي حكم ابتداء من (سنة 208 هجرية 823 ميلادية). فقد ورث مدرار إمارة شاسعة ومستقرة، ولم يشهد حكمه اضطرابات إلا في السنوات الأخيرة من عهده نتيجة الصراع بينه وبين القبائل المكناسية. ذلك أن مدرارا فضل ابنه ميمون بن عروة الرستمية لتولي الحكم من بعده بينما آثرت القبائل المكناسية ميمون بن التقية المكناسية. هذا الصراع الذي دام ثلاث سنوات (210 هجرية 825 ميلادية-213 هجرية 828 ميلادية) وانتهى لصالح مكناسة التي ثارت ضد مدرار وابنه فخلعتهما ونصبت ميمون بن التقية المكنى بالأمير. خلال حكم هذا الأخير (213 هجرية 828 ميلادية -224 هجرية 838 ميلادية) وابنه محمد المسمى بالمنتصر (224 هجرية 838 ميلادية -231 هجرية 844 ميلادية) عرفت سجلماسة استقرارا سياسيا وازدهارا اقتصاديا.
بعد هذه الفترة المزدهرة، ومع حكم اليسع بن مدرار المنتصر (231 هجرية 844 ميلادية – 255 هجرية 868 ميلادية) الذي حاول جمع شمل خوارج الصفرية بالمغرب، شهدت سجلماسة حدث ظهور الداعية الشيعي أبي عبد الله الفاطمي الذي جاء لإنقاذ زعيمه الإمام عبيد الله المهدي الذي كان مسجونا بالمدينة من طرف اليسع وبإيعاز من أمويي الأندلس.
وهكذا فبعد أن بسط الداعية سيطرته على إفريقية والقضاء على حكم الأغالبة بها، اتجه نحو سجلماسة لتحرير سراح المهدي (سنة 255 هجرية 868 ميلادية). “كانت ذريعة الغزو الفاطمي لسجلماسة هي إفتكاك أسر عبيد الله المهدي بعد أن انتهى به المطاف، لسبب غير واضح، إلى عاصمة المدراريين. إلا أن الدافع الحقيقي لاحتلال سجلماسة يتمثل أيضا في رغبة أبي عبد الله الشيعي في الاستيلاء على ثروات المدينة المشهورة بغناها“[1]. وقد تعرضت سجلماسة خلال هذه العملية لحصار قوي من طرف الفاطميين بل وقاموا بإحراقها وقتل عدد من أفراد الأسرة المدرارية. وقبل العودة إلى إفريقية عين الفاطميون حليفهم إبراهيم بن غالب المزاطي حاكما على سجلماسة. إلا أن هذا الحاكم لم يكن يحظى بعطف أهل المدينة الذين ثاروا عليه وقتلوه بعد فترة وجيزة فعينوا عليهم الأمير المدراري الفتح واسول بن ميمون الأمير. هذا الأخير تعرض بدوره للإقالة من طرف أخيه أحمد بن ميمون سنة 299 هجرية 912 ميلادية) والذي حاول ما أمكن تجنيب إمارته الخطر الفاطمي لمدة حوالي تسع سنوات ومع ذلك فقد تعرض لانقلاب عسكري من طرف القائد الفاطمي مصالة بن حبوس (عام 308 هجرية 921 ميلادية).
ومن أجل الحفاظ على التحكم في سجلماسة وفي تجارتها، عمل الفاطميون على تعيين حكام مدراريين موالين لهم على رأس المدينة ومنهم المعتز الحفيد الأصغر لمدرار (سنة 308 هجرية 921 ميلادية) ثم ابنه محمد (سنة 314 هجرية 927 ميلادية) وحفيده المنتصر سمكَو (شهران فقط عام 314 هجرية 927 ميلادية). إلا أن هذه التبعية للسياسية الفاطمية لم تدم طويلا حيث تم إلغاؤها من طرف الأمير المدراري محمد الفتح حفيد ميمون الأمير مع حلول )سنة 337 هجرية 950 ميلادية(. وعمل هذا الأمير (332 هجرية 945 ميلادية – 341 هجرية 954 ميلادية) على إعطاء حكمه الشرعية الدينية والسياسية، فلم يعترف بالفاطميين، ولقب نفسه بـ “أمير المؤمنين الشاكر لله” وسك عملة ذهبية تدعى “الشاكرية” أو “الدينار الشاكري” ابتداء من (سنة 341 هجرية 954 ميلادية)، وذلك لتسهيل عملية التداول النقدي في المبادلات التجارية. وقد شهدت سجلماسة وسكانها في عهد هذا الأمير فترة من الاستقرار بالرغم من قصر مدة حكمه ومن تصاعد الصراع الأموي الفاطمي على سجلماسة وتجارة القوافل. كما أن الفاطميين لم يكنوا غافلين عن مجريات الأحداث بسجلماسة، إذ كانت الإجراءات التي أقدم عليها الأمير المدراري تشكل خطرا مذهبيا واقتصاديا عليهم، وكانت بذلك إيذانا للتدخل العسكري الفاطمي بزعامة القائد جوهر الصقلي الذي حاصر المدينة واستولى عليها (سنة 345 هجرية 957 ميلادية).
ويورد صاحب روض القرطاس وصفا دقيقا لهذه الوضعية الجديدة التي عرفتها مدينة سجلماسة، إذ يقول: “وانصرف جوهر -بعد قتل يعلا ابن محمد اليفرني- إلى سجلماسة وكان قد قام بها محمد بن الفتح الخارجي المعروف بواسول بن ميمون بن مدرار الصفري وادعى الخلافة وتسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالشاكر لله وضرب بها السكة وكتب عليها اسمه وسكته معروفة بالشاكرية وكانت في غاية الطيب. وكان محمد بن الفتح غاية في إظهار العدل وإقامة السنة وكان مالكي المذهب فنزل عليه جوهر وحاصره بها وضيق عليه حتى دخلها عنوة بالسيف وقبض على الشاكر وتفرقت عنه جموعه وقتل رجاله وحماته من الصفرية وأوثقه في الحديد وأتى به أسيرا بين يديه حتى نزل على مدينة فاس وذلك في سنة 349 هجرية“[2]؛ أي ما يوافق حوالي سنة 960 ميلادية.
ويتضح من هذا أن مدينة سجلماسة قد استفادت في هذه الفترة الأولى من تحكمها في تجارة القوافل وأصبح لها شأن كبير. “وعندما توجه جوهر الصقلي بجيشه إلى سجلماسة ودخلها بدون مقاومة وفر أميرها الشاكر لله إلى منطقة مدغرة [قصر تاسكدالت]، يظهر أنه كان بهدف توثيق السيطرة على جميع محطات طرق التجارة مع السودان وتأمين الطريق المؤدية من سجلماسة إلى فاس“[3].
ومع توالي الصراع الأموي الفاطمي “استطاع أحد أبناء الشاكر لله والمكنى بالمنتصر بالله من السيطرة على سجلماسة (عام 352 هجرية 963 ميلادية)، إلا أن حكمه لم يدم طويلا حيث عوضه أخوه المعتز بالله[4]” الذي أعلن الاستقلال النهائي لسجلماسة عن الفاطميين (سنة 355 هجرية 965 ميلادية) مستغلا بذلك تراجع اهتمام الفاطميين بشمال إفريقيا بعد اتجاه نفوذهم نحو مصر وسوريا والمشرق بصفة عامة. خلال حكم المعتز لسجلماسة عرفت المنطقة هذه المرة ظهور قوة جديدة تطمح التحكم في المدينة بإيعاز من أمويي الأندلس، وهكذا استطاعت قبائل مغراوة الزناتية بقيادة خزرون بن فلفل القضاء نهائيا على الدولة المدرارية (سنة 366 هجرية 976 ميلادية)..
يتبع في العدد المقبل..
—————————————————-
1. رضوان مبارك، “بنو مدرار”، معلمة المغرب، المجلد الخامس، ص: 1559.
2. ابن أبي زرع، علي الفاسي، المصدر السابق، ص: 90.
3. العلوي القاسمي، هاشم، مجتمع المغرب الأقصى حتى منتصف القرن 4هـ/ منتصف القرن 11م. المحمدية، مطبعة فضالة، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1995. الجزء الأول، ص: 367.
4. Mezzine (L): op-cit. p: 30.
أرسل تعليق