سجلماسة المدينة العامرة المردومة.. (18)
2. البدايات الفعلية لمدينة سجلماسة على مسرح الأحداث
أ. تشييد المدينة
إن دراسة تاريخ ظهور المدن الأولى بالغرب الإسلامي عملية جد صعبة ومعقدة، نظرا لمحدودية المعلومات التي أوردتها المصادر المعاصرة، فضلا عن تضاربها واختلافها من حيث المؤسس وسنة التأسيس. وينطبق هذا المشكل، خصوصا على سجلماسة كما يمكن تعميمه على معظم المدن المغربية.
ويظل التساؤل مشروعا حول العوامل التاريخية المساعدة على بروز سجلماسة في منطقة شبه صحراوية وحول الظروف الاقتصادية والمرتبطة منها خاصة بالتجارة الصحراوية والتي أدت إلى النمو العمراني والحضاري بالمناطق المتواجدة في الضفة الشمالية للصحراء، ومنها خاصة سجلماسة.
حسب أحد الأساتذة توجد سجلماسة: “على نفس المسافة من المحيط، على نفس المسافة من البحر المتوسط وعلى نفس المسافة من القيروان ومن تلمسان.. فإشكالية ظهور المدينة ككل هو التطور الكبير الضخم الذي عرفته تجارة الصحراء.. لتجعل من المكان الذي توجد فيه سجلماسة المكان الاستراتيجي المهم…وجعل بطبيعة الحال من سجلماسة.. عاصمة الضفة الشمالية للصحراء من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر“[1]. إلا أن المصادر التاريخية كما سبق الذكر، تختلف حول التاريخ الحقيقي الذي ظهرت فيه مدينة سجلماسة على مسرح الأحداث بالغرب الإسلامي.
إن حملات الفتوحات الإسلامية بقيادة عقبة بن نافع لمنطقة سجلماسة تبقى غير واضحة ولكن ذلك لا ينفي إمكانية بلوغ الجيوش الإسلامية إلى هذه المنطقة، خاصة وأنها وصلت إلى منطقة درعة الواقعة على بعد خمس مراحل إلى الجنوب- الغربي منها. نفس الشيء ينطبق على ولاية موسى بن نصير للمغرب، ذلك أنه بالرغم من خضوع منطقة سجلماسة مبدئيا لنفوذ الخلافة الأموية بدمشق؛ فإن تاريخها في هذه الفترة ظل غامضا. كما أن الرواية الشفوية المحلية لا تتذكر إلا القليل عن البدايات الأولى لسجلماسة، فسكان المنطقة غالبا ما يرجعون أصل مدينتهم إلى الرومان “برتقيز أي البرتغال” ولكن دون أن يقدموا دلائل واضحة[2].
في غياب كامل لتأكيدات من جانب الأبحاث الأثرية والنصوص المكتوبة؛ فإن هذا الطرح وغيره الذي يرجع تأسيس سجلماسة إلى فترة ما قبل الإسلام -كما جاء في كتاب وصف إفريقيا لمحمد بن لحسن الوزان- من الصعب تأكيده. والمهم أن موقع المدينة كان معروفا، وربما تحت اسم آخر مثل مدينة زيز التي ذكرها البكري، قبل وصول خوارج مكناسة الصفرية بزعامة سمكَو بن واسول إليها. وقد يكون الأمير الخارجي عيسى بن يزيد الأسود قام ببناء المدينة أو أعاد بناءها في شكل أفضل مما كانت عليه من قبل. إن الاعتماد على روايات البكري والوزان وابن أبي محلي، تفضي إلى الوقوع “أمام ستة مؤسسين أو ست مراحل للتأسيس، أمام ست روايات للتأسيس، معنى ذلك أن مدينة سجلماسة أقدم مما نعتقد، وهناك إشارات لوصول الرومان واختراقهم لجبال الأطلس.. يبدو إذن أن مدينة سجلماسة أقدم من التاريخ المذكور بدليل عدة إشارات.. نرجع إذن لنقبل مبدئيا في ظل الواقع العلمي الموجود أن مدينة سجلماسة توسعت في عهد بني مدرار، أو أعيد بناؤها”[3]. وهو نفس الرأي الذي تتفق عليه دائرة المعارف الإسلامية، إذ تشير إلى أن سجلماسة كانت خرابا يبابا عند وصول المسلمين حتى لو صح أنه كان لها وجود من قبل[4].
ودون الخوض في تفاصيل مختلف الروايات المتعلقة بهذا التأسيس والتي تطرق إليها من قبل بعض الدارسين، يمكن القول إنه من الصعب –في ظل انعدام معطيات مصدرية واضحة وأبحاث أثرية دقيقة- إعطاء تاريخ مضبوط لهذا التأسيس. ويبقى المخرج الوحيد من هذه الإشكالية هو الاعتماد على التأريخ المقبول نسبيا والمتفق عليه من طرف أغلب المهتمين، والذي جاء به البكري في كتابه المسالك والممالك إذ يقول : “ومدينة سجلماسة بنيت سنة أربعين ومائة وبعمارتها خلت مدينة تدغة [أو ترغة] وبينهما يومان وبعمارتها خلت زيز أيضا”[5]، وهو ما يوافق حوالي 757 ميلادية.
يتبع في العدد المقبل..
——————————————
1. ناعمي مصطفى، “سجلماسة، ونول لمطة من خلال الوثائق التاريخية والحفريات“، أعمال ندوة سجلماسة تاريخيا وأثريا. الرباط، مطابع الميثاق، منشورات وزارة الثقافة، 1988، ص: 25-26.
2. تنطبق هذه الرواية على معظم حواضر المغرب القديمة وخاصة المندثرة منها وغير المؤرخة بدقة.
3. السهلي، العربي، “المدراريون في سجلماسة“، أعمال ندوة سجلماسة تاريخيا وأثريا. الرباط مطابع الميثاق، 1988، ص: 19.
4. مجموعة من المؤلفين، دائرة المعارف الإسلامية. الجزء الحادي عشر، ص: 298.
5. البكري أبو عبيد الله، المصدر السابق. طبعة 1968، ص: 148، موقع مدينتي تدغة وزيز غير معروف، فالأولى ربما تكون هي مدينة تنغير الحالية وقد كانت مشهورة بمناجمها المعدنية وبمعاملها في سك العملة. أما زيز فيمكن أن تكون في نفس موقع سجلماسة أو غير بعيدة عنها وعلى ضفاف وادي زيز الذي لا زال يحمل اسمها [Jacques-Meunié (D): op-cit, p 197; note 11].
أرسل تعليق