رِعَاية المرابطين لِلأدب وأهْلهِ..(2)
ولا ندع هذه الحادثة تمرُّ دونَ أن نقيمها حجةً على من يتَّهم المرابطين بعدم الذوق الأدبي، وكثافة الإحساس الفني، ولذلك كسِف الأدب في عهدهم وأضمحلَّ اضمحلالاً مؤسفاً، بل لا نعدم من يجرّدُهم حتى من معرفة اللسان العربي، فكيف فطن عليُّ بن يوسف لمغامز ابن أبي الخصال وتورياته التي ظن أنها تخفى على مخدومه، إن لم يكن ثقفا لقفاً، وعلى جانب من العلم يدرك به سوء النية التي أملتْ على كاتبه رسالته تلك؟
وما بالنا لا نقول مثل هذا أيضا في يوسف نفسه، وقد قرأ عليه الكاتب القدير أبو بكر بن القصيرة جوابه للأذفنش فقال: “هذا جواب طويل” وأملى عليه كلمته التي ذهبت مثلا أو كتبها بنفسه، وهي قوله: “الجواب ما ترى لا ما تسمع.. !” فهل صاحب هذه الملاحظة وذلك الجواب يكون لا يعرف العربية؟ وهل موقف يوسف هذا إلا مثل موقف أبي مسلم الخرساني من رسالة عبد الحميد الكاتب التي بعثها إليه عن مخدومه مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية، وكانت من الطول بحيث تقع في مجلد، فلما وصلت إلى أبي مسلم أحرقها ولم ينظر فيها. وكذلك قدَّر يوسف في رسالة ابن القصيرة أنها لا يكون لها التأثير المطلوب في نفس الأذفنش بسبب طولها، وربما أهلها لنفس السبب فعوضها بعبارته البليغة التي أقضت مضجعه.
وقالوا إن شعراء الأندلس مثلوا أمام يوسف بعد انتصاره في موقعة الزلاقة، وأنشدوه مدائحهم فيه، وأن المعتمد بن عباد قال له: “أيعلم أمير المسلمين ما قالوه؟” فقال: “لا ولكنهم يطلبون الخير” فليت شعري لماذا احتاج هنا إلى من يترجم له، ولم يحتج إليه في فهم رسالة ابن القصيرة وانتقادها؟ وهلا عدُّوا جواب أمير المسلمين على فرض صحة الحكاية من باب ما يسمى عند البديعيين بأسلوب الحكيم، فما غرض الشعراء بمدحه إلا طلب خيره؟..!”.
أما ما نرويه نحن في هذه القصة، فهو أنه كان يحثوا التراب بيده، وهم يلقون قصائدهم، فقال قائل إنه يعرض لهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم “أحتوا في وجه المداحين التراب.. !”.
يتبع في العدد المقبل..
عن كتاب النبوغ المغربي في الأدب العربي تأليف عبد الله كنون دار الثقافة، ج: الأول، ص: 80–81.
أرسل تعليق