دور مؤسسة الحسبة في حماية البيئة
تعتبر مؤسسة الحسبة في الشريعة الإسلامية الهيكل التنظيمي للنشاط الاقتصادي في المجتمع المسلم، فهي تحرص على سيادة القواعد الدينية والأخلاقية في هذا المجال، ولا يقتصر دور الحسبة على مراقبة النشاط الاقتصادي فحسب؛ بل إنها تقوم أيضا بدور المراقب للجوانب البيئية في المجتمع المسلم. يقول الإمام الغزالي في منكرات الشوارع: “فمن المنكرات المعتادة فيها.. وكذلك ذبح القصاب إذا كان يذبح في الطريق حذاء باب الحانوت، ويلوث الطريق بالدم فإنه منكر يمنع منه، بل حقه أن يتخذ في دكانه مذبحا؛ فإن في ذلك تضييقا بالطريق، وإضرارا بالناس بسبب ترشيش النجاسة وبسبب استقذار الطباع للقذورات، وكذلك طرح القمامة على جواد الطرق، وتبديد قشور البطيخ، أو رش الماء بحيث يخشى منه التزلق والتعثر كل ذلك من المنكرات، وكذلك إرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط في الطريق الضيقة فإن ذلك ينجس الثياب أو يضيق الطريق فلا يمنع منه في الطرق الواسعة إذا العدول عنه ممكن، فأما ترك مياه الأمطار والأوحال والثلوج في الطرق من غير كسح فذلك منكر..”[1].
لقد اهتمت الحسبة بالبعد البيئي وجعلته من مسؤولياتها وهي تنظم مجال الحرف والمهن، وفرضت على أصحاب الحرف احترام هذا المبدأ.
وهذه نماذج تبين اهتمام مؤسسة الحسبة بالجانب البيئي:
1- يعتبر المحتسب على اللبانين بتغطية أوانيهم، وأن يكون المكان مبيضا مبلطا، وأن يكون التغاطي جديدا؛ فإن الذبيب يحب مكان اللبن[2]؛
2- وفي الحسبة على الطباخين يأمرهم المحتسب بتغطية أوانيهم وقاية لها من الذباب وهوام الأرض بعد غسلها بالماء الحار والأشنان[3]؛
3- ينبغي على الخبازين أن يرفعوا سقائف حوانيتهم وأن يجعلوا في سقوف الأفران منافذ واسعة يخرج منها الدخان لئلا يتضرر بذلك الناس[4]؛
4- وفي الحسبة على القلائين يأمرون كل يوم بغسل قفافهم وأطباقهم التي يحملون فيها السمك، وينثرون فيها الملح المسحوق كل ليلة بعد الغسل، وكذلك يفعلون بموازينهم الخوص لأنهم إذا غفلوا عن غسلها فاح نتنها وكثر وسخها.. ومتى مذر السمك المكسود والطريح وجب أن يرمى على المزابل خارج البلد[5]؛
5- وفي الحسبة على القصابين: وإذا فرغ القصاب من البيع وأراد الانصراف أخذ ملحا مسحوقا ونثره على القرميه التي يقصب عليها اللحم لئلا تلحسها الكلاب، أو يدب عليها شيء من هوام الأرض[6].
وقد ذكر ابن المناصف نماذج من المناكر المحتسب فيها فقال: “ومن ذلك اتخاذ بعض الناس ما يؤول إلى أذى المسلمين، والتضييق في الشوارع عليهم كتكادس المرحاضات المستخرجة من سروب المحلة وقنوات تلك الحومة، وتركها كذلك في المواضع الضيقة بحيث يتنجس المار، وقد يقع فيها الصبيان، والماشي ليلا، وربما كان المطر ومال بعض ذلك مع الماء وخالط كثيرا من طرقات المسلمين، فعظمت المضرة واشتدت المصيبة، وكذلك ما يكون في بعض السطوح من قطر ميازيب تجري بغسالة ونجاسة في موضع ضيق، لا يكاد المار يسلم من شرارها، وكذلك اتخاذ مرابط الدواب على الطرق، وبحيث ينال المارين من ضيق الموضع بها وتعذر الجواز، وروع كثير من الناس مضرة ظاهرة وربما عاد تنجيسهم وتلويث ثيابهم ما يكون من أرواشها وأبوالها”[7].
فهذه النماذج تبين أن حماية البيئة من أهم المقاصد التي يحرص المحتسب على تطبيقها، وإنزال العقوبة على من يخل بها، وهذا البعد القانوني يجعلها أكثر فعالية في الإلزام برقابتها.
——————————————————-
1. إحياء علوم الدين للغزالي، ج: 1، ص: 46، دار الجيل – بيروت الطبعة الأولى 1412 هـ / 1992 م.
2. معالم القربة في أحكام الحسبة لمحمد بن محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الأخوة عني بنقله وتصحيحه روبين ليوي، ص: 130 طبع مكتبة المتنبي القاهرة بدون تاريخ.
3. معالم القربة لابن الأخوة، ص: 106.
4. نهاية الرتبة في طلب الحسبة للشبزري، تحقيق الباز العرنيني، ص: 22، دار الثقافة بيروت، الطبعة الثانية 1401 هـ / 19841 م.
5. نهاية الرتبة، ص: 33.
6. نهاية الرتبة، ص: 28.
7. تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام لمحمد بن عيسى بن المناهف تحقيق عبد الحفيظ منصور، ص: 304، دار التركي، تونس 1988.
أرسل تعليق