دلائل الحب الإلهي
قال الله تقدست أسماؤه: “وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ” [البقرة، 164].
شواهد الكتاب والسنة ناطقة بأن الله جل وعلا يحب خواص عباده، وأن ذلك مما ينالونه بمخالفتهم لأهوائهم في سبيل مرضاته، والوقوف على باب خدمته. وقد أثبتت الآية حب الإنسان لربه محبة خاصة؛ محبة لا تكون إلا لله لأنه الإله الحق بحق، الأحد الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير بذاته إليه، وكون العبد محبوبا لله أعلى وأسمى من كونه محبا لله، فليس الشأن أن تحبه، ولكن الشأن أن يحبك: “قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [اَل عمران، 31] فجعل سبحانه متابعة نبيه صلى الله عليه وسلم سببا لحبه إياهم.. وهذا واحد من كثير من الأسباب والخلال والصفات التي إذا تحلى بها الإنسان جعلته محظوظا بنعمة الفوز بالحب الإلهي:
أولاها: قال تعالى: “وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” [البقرة، 194]؛
والثانية: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ” [البقرة، 220]؛
والثالثة: “فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ” [آل عمران، 75]؛
والرابعة: “وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ” [آل عمران، 146]؛
والخامسة: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” [آل عمران، 159]؛
والسادسة: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” [الممتحنة، 8]؛
والسابعة: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ” [الصف، 4]؛
والثامنة: “قُلْ اِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [آل عمران، 31]..
فمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم هي الباب الأعظم للدخول على محبة الله تعالى، ولولا محبته صلى الله عليه وسلم ما صلحت محبة أحد، وكان الجميع أدعياء، وكيف يصح الإيمان والإقتداء والاتباع دون الحب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ“. فحقيقة المحبة هي الموافقة أو الطاعة حتى قال بعضهم: “حب الله تعالى يعني حب طاعته وأعظم معاني الطاعة هنا موافقته بالقلب فإن المحب دائما مع محبوبه” كما أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه “أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ؟ قَالَ: وَيْلَكَ! وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ، قَالَ: إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ“. قال أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك.
ومن أعز معاني هذا الوجود أن تحب الله ورسوله، فهذه هي المحبة الحقيقية الكاملة، وما عداها زيف ووهم؛ كان أحدهم يدعو فيقول: “اللهم ما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب” وقال أبو زيد “لو أعطيت الملك على العالمين فلا يساوي ذلك عندي زفرة تخرج من أعماق روحي ساعة الصبح عندما أفكر في شوقي إليه“، وكان أبو سليمان الداراني يقول في مناجاته: “ربي لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني ببخلي لأطالبنك بجودك وكرمك، ولئن طالبتني بإساءتي لأطالبنك بإحسانك، ولئن أدخلتني النار لأخبرن أهل النار إني أحبك، فنودي يا أبا سليمان لا ندخلك النار بل ندخلك الجنة فتخبر أهلها بمحبتنا“.
واعلم أن المحبة يدعيها كل واحد، وما أسهل الدعوى وما أعز المعنى في أبد الأبدين… محبة الله ورسوله شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح هي التي ينبغي أن تلحظ إذا ادعت النفس محبة الله تعالى.
فمن هذه الثمرات والعلامات: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة وهي “ترك ما يريد المحب لما يريده المحبوب” كما قيل:
أريـد وصـــاله ويريــــد هجري فأترك مــــا أريد لــــما يـــريد
وقال ابن المبارك:
تعـصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بـديع
لو كان حبك صـــادقا لأطعته إن المحب لمــن يحب مطيع
ومن علامات المحبة أن يكون مشفقا على عباد الله، رحيما بهم، حريصا على منفعتهم وإسعادهم ومواساتهم وجبر قلوبهم، ومن علامات المحبة أن يكون في حب الله خائفا متضائلا تحت العظمة والهيبة، فيخاف أن يعرض عنه مولاه أو يحجبه عن معرفته أو يبعده عن رحمته وقد قال يحي بن معاذ في ذكر بقية العلامات:
لا تُخــــدَعَنَّ فـــَلِلمُحِبِّ دَلائِـــلُ ولَدَيهِ مِن نَجوَى الحَبيبِ رَسائِلُ
مِنـــــها تَنَــــعُّمُهُ بِما يُبلــى بـِهِ وسُرورُهُ في كُلِّ ما هُــــوَ فاعِـلُ
فَالمَنعُ مِـــــنهُ عَطِـــيَّةٌ مَعـروفَـةٌ وَالفَقرُ إكرامٌ ولُطــــفٌ عــــــاجِلٌ
ومِنَ الدَّلائِلِ أن يُرى مُتَحـــــَفِّظاً مُتَقَشِّفاً في كُلِّ ما هــُوَ نــــازِلُ
ومن العلامات أن تحب كل ما يتعلق بالمحبوب وينتسب إليه؛ فلذلك قال سهل بن عبد الله التستري: “علامة حب الله حب القرآن وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة وعلامة حب السنة حب الآخرة“.
ومن علامات محبة الله ألا يأنس لأحد سواه، فالمحب لا يسكن ولا يطمئن إلا بذكر محبوبه “والَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ” [البقرة، 165].
ومن علامات المحبة ألا يستتقل الطاعة؛ يفتر بدنه ولا يفتر قلبه.
ومن تمام التحلي بهذه الصفات أن يتخلى المرء عما يخالفها ويضادّها، ولذلك قال سبحانه: “وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ” [البقرة، 164] وسر قبح الشرك الذي لا يغفره الله تعالى كونه تشريكا في محبته كما قال تعالى: “وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ” وقال: “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ” وقال:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” [الصف، 1-2].
أرسل تعليق