دعاء موسى عليه السلام.. (2)
يقول عز وجل في محكم كتابه العزيز: “واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الاَخرة إنا هُدنا إليك قال عذابي أصيب به من اَشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويوتون الزكاة والذي هم بأياتنا يومنون” [الاَعراف، 156].
تتضمن الآية الكريمة دعاء من موسى عليه السلام وجوابا من الله عز وجل. فالدعاء متمثل في قوله تعالى: “واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الاَخرة إنا هُدنا إليك“. أي ارزقنا معيشة حسنة في الدنيا، وفوزا بالجنة في الحياة الآخرة. وقد لاحظ الإمام بن عاشور رحمه الله[1] أن لفظ “اكتب” مستعار للدلالة على معنى العطاء المستأنف والمتجدد. أي آتنا الحسنة تلو الحسنة في أزمان حياتنا الدنيوية، وفي الآخرة. والحسنة الدنيوية هي الحالة المرضية لله تعالى وللناس، والحسنة في الآخرة هي الحالة الكاملة فيها. إنا هدنا إليك[2]، أي تبنا ورجعنا إليك، وفوض أمرنا إليك. ويتمثل الجواب الإلهي في قوله تعالى: “قال عذابي أصيب به من اَشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويوتون الزكاة والذي هم بأياتنا يومنون“. إن عذاب الله تعالى منصب على “من أساء” إذا اعتمدنا قراءة الحسن البصري والأعمش وأبو العالية[3]. أو أن هذا العذاب منصب على من يشاء من الكفار والعصاة والمجرمين.
لا يخفى أنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في ما روي عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى كتب العذاب على نفسه، وإنما الذي ورد في الكتاب والسنة هو أنه توعد أن يصيب به من شاء. وفي هذا المضمار قال الزمخشري في سياق تفسيره لقوله تعالى: “قال عذابي أصيب به من اَشاء” أي من وجب على في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ؛ لأنه مفسدة”[4]. أما رحمته فهي واسعة للعلمين. أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السماك بن الفضل أنه ذكر عنده أي شيء أعظم، فذكروا السماوات والأرض، وهو ساكت، فقالوا: ما تقول يا أبا الفضل. فقال: ما من شيء أعظم من رحمته قال الله تعالى: “ورحمتي وسعت كل شيء“[5].
لئن كانت الرحمة الإلهية واسعة لكل شيء، ومحيطة بكل شيء، فقد كتبها الله تعالى لصنف من عباده وصفهم بقوله: “فسأكتبها للذين يتقون ويوتون الزكاة والذي هم بأياتنا يومنون الذي يتبعون الرسول الاُمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والاِنجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاَغلال التي كانت عليهم فالذين ءَامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون” [الاَعراف، 157].
——————————————-
1. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 9، ص: 111.
2. هاد يهود هودا وتهود أي تاب ورجع إلى الحق والصواب فهو هائد. قال بن سيده: عداه بإلى؛ لأن فيه معنى رجعنا. ينظر تفسير المنار لرشيد رضا ج: 9، ص: 193.
3. زاد المسير، ج: 3، ص: 270.
4. الزمخشري، الكشاف، وقد اعترض البعض على هذا الفهم الزمخشري للوجوب؛ لأن الجمع بين الحكمة والرحمة في نظره لا يقتضي أن يجب على الله شيء لذاته. قال الشيخ محمد رشيد رضا: “ليس في النصوص ما يدل على هذا الوجوب إلا أن يوجبه تعالى بمشيئته.. وليس في إيجابه على نفسه بمشيئته ما في إيجاب عقول خلقه عليه من معنى استعلاء غيره عليه تعالى، أو من إيهام كونه عز وجل محكوما بما ينافي سلطانه الاختياري الذي هو فوق كل سلطان، بل لا سلطان سواه، وإنما سلطان غيره به ومنه، فلو لم يكن في اختلاف التعبير إلا مراعاة الأدب لكفى” تفسير المنار، ج: 9، ص، 194.
5. السيوطي، الدر المنثور، ج: 3، ص: 571.
6. كما في قوله إخبارا عن حملة العرش ومن حوله: “ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما” [غافر، 6]، قال الشيخ محمد رشيد رضا: “عبر عن التعذيب بالفعل المضارع، وعن تعلق الرحمة بالفعل الماضي. وهذه الرحمة هي العامة المبذولة لكل مخلوق، ولولاها لهلك كل كافر وعاص عقب مفره وفجوره “ويؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة” [فاطر، 46]، رشيد رضا، تفسير المنار، ج: 9، ص: 193.
أرسل تعليق