دعاء التوفيق
يقول عز وجل: “قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من اَهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا اِنك كنت بنا بصيرا” [طه، 24-34].
سيق هذا الدعاء في مقام مقالي يتعلق بمواجهة ملك جبار وبمنازلته من أجل كشف فساده والوقوف في وجه طغيانه لقوله تعالى: “اَذهب إلى فرعون إنه طغى” [طه، 23]. لقد فهم موسى عليه السلام من هذا السياق أنه لما كان مؤيدا من الله تعالى فلا يسعه إلا أن يسأله التوفيق فيعينه الله تعالى ويمده بالمدد. وهكذا تضرع إلى الله سبحانه وتعالى قائلا: “قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من اَهلي هارون أخي”.
“اشرح لي صدري” طلب موسى عليه السلام أن يهبه الله تعالى الاطمئنان إلى ما هو بصدده فتبتعد عن خواطره كل الشكوك التي قد تجعله مترددا أو حائرا. وهو ما سبق أن خشي منه عليه السلام كما في قوله تعالى: “قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري” [الشعراء، 11-12] كلمة أخرى لقد طلب من الله تعالى من خلال هذا السبب ليس فحسب الجراءة على مخاطبة فرعون بالحق[1]، وإنما طلب أيضا أن يمتلك من وضوح القصد ما يجعله على بصيرة من أموره. وإن ما يجعلنا على بصيرة من أمورنا محصور في جانبين رئيسين: جانب أول يرتبط بمدى قدرتنا على استيعاب المعطيات التي يحيل بها واقعنا، وجانب ثان يتصل بنوع تمثلنا لما يلقى بين أيدينا من أفكار وتوجهات، ومن بينات وتوجيهات.
تيسير الأمر و سلامة الأدوات: المقصود بتيسير الأمر أي جعل الشيء يسيرا وسهلا. والمقصود بسلامة الأدوات صحة أدوات البيان وآلات التبليغ الواردة في قوله تعالى: “واحلل عقدة من لساني”. وأعني بها اللسان السليم[2]، أي الفصيح الذي يتحقق به يتحقق تبليغ المعنى المراد من الكلام ويتضح به المعنى المقصود من الخطاب ويحصل به التأثير المطلوب لدى المتلقي أو السامع. لقد سبق لموسى عليه السلام أن عبر عن خشيته من عدم انطلاق اللسان كما في قوله تعالى: “ولا ينطلق لساني” [الشعراء، 13].
طلب العون، أي جعل هارون وزيرا ومعونا لموسى عليهما السلام لأنه يثق فيه كثيرا بسبب ما له من قوة المناصحة ومن أصالة الرأي. وهو ما نص عليه قوله تعالى: “وأخي هارون هو أفصح مني لسانا” [القصص، 34]. والغرض من هذا المطلوب أن يشد أزره ويشركه في أمره كما في قوله تعالى: “اشدد به أزري وأشركه في أمري“، وكما في قوله أيضا: “قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بأَياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون” [القصص، 35].
وقد علل موسى عليه السلام دعاءه بقوله: “كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا”[3]. قال الإمام ابن عاشور رحمه الله: “أن فيما سأله لنفسه تسهيلا لأداء الدعوة بتوفر آلاتها ووجود العون عليها، وذلك مظنة تكثيرها وجملة “إنك كنت بنا بصيرا” تعليل لسؤاله شرح صدره وما بعده، أي أنك تعلم حالي وحال أخي، وأني ما دعوتك بما دعوت إلا لأننا محتجان لذلك، وفيه تفويض إلى الله تعالى بأنه أعلم بما فيه صلاحهم، وأنه ما سأل سؤاله إلا بحسب ما بلغ إليه علمه”[4].
حاصل القول في شأن هذا الدعاء القرآني الوارد على لسان موسى عليه السلام جمعه بين مطلوبين:
أ. المطلوب التواصلي الذي يتحقق به حسن تواصلنا مع غيرنا في حياتنا العلمية أو العملية. فبهذا المطلوب يتحقق تيسير الأمر مع غيرنا. ومما يعضدد ذلك أن يكون من أهلنا ما يعيننا على القيام بشواغل وتكاليف حياتنا. فالمرء -ومهما أوتي من طاقات وقدرات- ضعيف بمفرده قوي بغيره. ومن ثم ضرورة الاستشارة وإشراك ما يهمه أمرنا ويهمنا أمره في اتخاذ القرارات فتتكامل المقاصد وتتعاضد الجهود من أجل خير الأفراد والمجموع.
ب. المطلوب المعرفي لأنه يتعلق بأن يشرح الله صدورنا للحق وللخير وللجمال في ما نكسبه من معرف وما نراكمه من خبرات وتجارب مختلفة. وهذا هو مجال الاستيعاب الكامل للمعطيات والتمثل الدقيق لقواعد الحياة من أجل حسن الإفادة منها في حياتنا العلمية والعملية.
وعلى الرغم من تحقق هذين المطلوبين التواصلي والمعرفي ظل الخوف من إفراط فرعون وطغيانه مؤثرا على موسى وأخيه هارون عليهما السلام، كما في قوله تعالى: “قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى” [طه، 45-46].
——————————–
1. وقيل بأن المقصود نور يقذف في القلب، أمارته التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل النزول بعد أن استفرغ الرازي جهده في تفسير قوله تعالى: “رب اشرح لي صدري” قال: “إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور، والوضوء نور، والصلاة نور، والقبر نور، والجنة نور فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة” مفاتيح الغيب، ج: 22 ص: 42.
2. قال زهير بن أبي سلمى:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والــــدم
3. قال الرازي: “التسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله عما لا يليق به، وأما الذكر فهو عبارة عن وصف الله تعالى بصفات الجلال والكبرياء. ولا شك أن النفي مقدم على الإثبات”الرازي، مفاتيح الغيب ج: 22، ص: 52.
4. ابن عاشور، تفسير التحرير و التنوير ج: 16، ص: 214.
أرسل تعليق