دعاء الاستفتاح
يقول عز وجل في محكم كتابه العزيز: “إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وإن الله مع المومنين” [الاَنفال، 19].
لئن اتفق المفسرون على أن الآية سيقت في مقام قتال المسلمين مع الكفار والمشركين يوم بدر؛ فإنهم اختلفوا في تحديد المخاطب بها، ومن تم فقد قيل بأن المخاطب بها هم المسلمون، وقيل بأنهم المشركون، وقيل ثالثا بضرورة التمييز في المخاطبين بها.
لقد ميز بعض المفسرين في الآية بين قوله تعالى: “إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح” فهذا خطاب للمؤمنين، وبين سائر قوله: “وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت” فرأوا أنه حطاب للمشركين، أي كأنه سبحانه قال لهم: أما أنتم الكفار إن تنتهوا فهو خير لكم[1].
وذهب فريق آخر إلى القول بأن الخطاب في الآية موجه إلى المشركين. دليل ذلك أنه لما كان من النادر بعد الهجرة أن يوجه الخطاب القرآني إلى الكفار؛ فإن الخطاب في هذه الآية المدنية موجها للمسلمين. لقد سيقت الآية في مقام مقالي له متعلقات متعددة: منها متعلق الاستجابة الإلهية لدعائهم الوارد في قوله تعالى: “إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ” [الاَنفال، 8]، ومنها متعلق التذكير بنصر الله في قوله تعالى: “فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ” [الاَنفال، 17] إلى قوله: “وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ” [الاَنفال، 18]. فلما سيقت الآية في مقام هذه المتعلقات فقد هجس في أنفسهم سؤال أجابت عنه الآية الكريمة. سؤال يمكننا صياغته في قولنا: هل النصر للمؤمنين يكون ويحصل في أي مجاهدة للكافرين؟ أم أن ذلك مخصوص بوقعة بدر؟
يبدو، وفي ضوء استحضار هذا المقام المقالي، أن المعنى المقصود من الآية هو تحقيق الله تعالى للنصر وإنجاز وعده للمؤمنين بالتمكين. بكلمة أخرى إذا طلبتم النصر في المستقبل فقد جاءكم الفتح. عبر بالفعل الماضي في جواب الشرط للتنبيه على تحقيق وقوعه. قال الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله: “يعلمهم الله صدق التوجه إليه، ويكون موقع “ولن تغني عنكم فئتكم شيئا” زيادة تقرير لمضمون: “إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح” وقوله: “وإن تعودوا نعد” أي لا تعتمدوا إلا على نصر الله”[2].
وذهب الجمهور إلى القول بأنها خطاب إلى الكفار والمشركين الذين طلبوا من الله تعالى أن يحكم بالهزيمة على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فلما رأوا في الدعوة الإسلامية ما يفرق شملهم، و يقطع أرحامهم، ويفرق بين صفوفهم، دعوا الله تعالى أن يلحق بأصحابها الهزيمة. فلما قرر المشركون الخروج إلى بدر استنصروا الله تعالى تجاه الكعبة وطلبوا الفتح، أي دعوا الله تعالى أن يحكم لهم بالنصر والتأييد[3]. وفي هذا المضمار يروى عن أبي جهل بن هشام تضرعه بالدعاء قائلا: “الله أينا كان أفجر لك، وأقطع للرحم فأحنه اليوم“[4]؛ أي فأهلكه اليوم. وإن أقل ما يمكن أن نستفيده من دعاء المشركين، ممثلا في دعاء أبي جهل، أن العبرة في الإسلام لا تكمن في مجرد الاقتناع العقلي والمعرفة العلمية بمقتضيات العقيدة الصحيحة، على الرغم من أهميتهما وخطورتهما، كما لا تتجسد العبرة في مجرد الإيمان الوجداني بها، على الرغم من ضرورته وحتميته، وإنما تتحدد العبرة أيضا في ما تثمره تلك المعرفة العلمية وما ينتجه هذا الإيمان الصادق من سلوك مخصوص يتمثل في عمل صالح ينتفع به الإنسان الفرد والمجتمع والأمة.
——————————
1. ابن عطية، المحرر الوجيز، ج: 2، ص: 512.
2. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 9، ص: 301.
3. كما في قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: “على الله توكلنا ربنا اَفتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين” [الاَعراف، 88]. ينظر أضواء البيان للشنقيطي، ج: 2، ص: 251.
4. ينظر للتوسع في نماذج من أدعية المشركين وتضرعا تهم، تفسير الطبري ج: 9، ص: 207، وتفسير بن كثير، ج: 2، ص: 297 ، والزمخشري في الكشاف، 2، ص: 297.
أرسل تعليق