حكايات الصالحين.. جُنْدٌ من جنود الله تعالى
“على طريق النور تمضي مواكب العارفين إلى غاية الغايات، حيث تنعم الأرواح التي شربت من ينابيع المحبة والصفاء، حتى لم تبق فيها لغير الله بقية، فهي دائما وأبدا مع الله وبالله، إنها أرواح الصفوة الأولياء، الذين اصطفاهم الله تعالى لهداية خليقته، فهم الضياء المنبعث في أرجاء هذه الحياة ليغمر سناه آفاق هذه الإنسانية، فيجذب الأرواح التائقة إلى النور”[1].
لله عز وجل رجال وعباد اختصهم بمزيد عنايته، وجبل قلوبهم على محبته، هم خيرته من خليقته، والصفوة الممتازة من بريته، إنهم أولياؤه وأصفياؤه، أرواحهم تقتات بذكره، ومشاعرهم تهفو إلى مناجاته، قال فيهم جل وعلا: “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون” [ يونس، 62-63].
قال عنهم جلّ شأنه في الحديث القدسي: “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته”[2].
من دنا من ساحتهم أحلّوه خير مقام، ومن فاز بصحبتهم نال الوصل إلى الملك العلاّم، “… سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم، وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا؛ فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به”[3].
لما كان هذا مقامهم وسلوكهم، وتلك أخلاقهم ومناقبهم، بات لزاما على من يريد الاقتداء بهم والسير على منهاجهم، الإطلاع على أخبارهم وأقوالهم ومقاماتهم، وكيف نالوا المعرفة لله عز وجل، وبلغوا القرب والوصال، فأدناهم الحق تبارك وتعالى وجعلهم أولياءه وأحباءه، “… إذ بذكرهم تتنزل الرحمات، وتنزل سوابغ النعمات، وتستمطر سحائب البركات، وتستصحب السعادة في السكنات والحركات…، وبنفحاتهم تحيى القلوب، وتنبعث همتها إلى المطلوب، وتستيقظ من منامها، وترتوي بعد أوامها”[4].
ولم يكن ليتحقق للراغب مراده في معرفة سيرهم، لولا اعتناء علماء الأمة الإسلامية بتدوين آثار هؤلاء الصفوة من عباد الله عز وجل، “فإن من أحسن ما يصرف إليه الإنسان اهتمامه، ويصرف فيه لياليه وأيامه، ويعمل فيه فكره وأقلامه، ويجعل ذكره نديمه ومدامه، ويتخذه محراب وجهه وأمامه، ويقتبس من مشكاة نوره، ويستضئ بشموسه وبدوره، ويرتع في خمائله ورياضه، ويكرع من موارده وحياضه…: محاسن أهل الله الأولياء، وخاصته الأصفياء حزب الله، وأهل حضرته الفائزين…، فإلى سماع ذكرهم ترتاح القلوب، وتشتاق به إلى علام الغيوب، وتنشط بذلك من عقالها لفعل الطاعات وأدائها…”[5].
ومعلوم أنه لم تُعن أُمة من الأمم بتخليد تاريخ عظمائها ورجالاتها كما عُنيت أمة العرب، فقد جمعت أخبارهم، ودونت سيرهم، ونشرت مناقبهم، من “أجل ربط أبنائنا بماضي سلفنا الصالح، للانتفاع بهديهم، والسير على نهجهم، ومتابعة التأصيل على ما شيّدوه، والبناء على أركانه الأصيلة، وقاعدته الراسخة”[6].
وفي التعريف بالعلماء والأولياء، والوقوف على حقائقهم من الفوائد ما لا يعد ولا يحصى، مما فيه خيري الدنيا والأخرى، من ذلك:
• معرفة مناقبهم وأحوالهم، فيُتأدب بآدابهم، ويُقتبس من محاسن آثارهم؛
• معرفة مراتبهم وأعْصُرِهم، فيُنَزّلون منزلتهم، حتى لا يخفض العالي عن درجته، ولا يرفع غيره فوق منزلته، لأنهم مراتب بعضها فوق بعض؛
• أنهم هداتنا وأئمتنا وأسلافنا الذين هم أشد شفقة علينا من والدينا لنا، وأهدى لنا في آخرتنا التي هي دار قرارنا، وأنصح لنا بما هو أعود علينا، فيقبح بنا أن نجهلهم، وأن نهمل معرفتهم؛
• بيان بعض مصنفاتهم، وذكر بعض كلامهم وأشعارهم، ليهتدى إلى الانتفاع بها، فتعُمّ الفائدة، ويحصل الموصول من صلته على العائدة؛
• أن بذكرهم -فأحرى بنشر مزاياهم وفخرهم- تتنزل الرحمات الإلهية، وتنتشر على القلوب مواهب الفضل الإحسانية…[7].
سئل الإمام الجنيد رحمه الله تعالى عن الفائدة من حكايات الصالحين، فقال: “الحكايات جند من جنود الله تعالى، يُقوِّي بها قلوب المريدين. قيل له: فهل في ذلك شاهد؟ فقال رضي الله عنه: نعم، قوله تعالى: “وكُلاًّ نقص عليك من اَنباء الرسل ما نثبت به فؤادك” [هود، 120]”[8].
وسيرا على نهج أسلافنا في جمع وتدوين تراجم الرجال، كان لزاما علينا نحن الخلف العكوف على كتابة سير وآثار العارفين والأولياء والصالحين بهذا البلد الكريم، فقد “ورد أن من أرّخ عالما أو غيرَه، فكأنما أحياه؛ لأن همم عظماء الرجال تتجلى في آثارهم، وتتبيّن من إخلاصهم في عملهم”[9].
وللكتابة عن أولياء المغرب وصالحيه دواعٍ كثيرة وأسباب متنوعة، يمكن إجمالها في الآتي:
• ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن الجموح، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “قال الله عز وجل: إن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يُذكرون بذكري، وأُذكر بذكرهم”[10]؛
• الحديث الذي روي بألفاظ وصيغ مختلفة، عن فضل طائفة من أهل المغرب ما لا يدفعه دافع ولا ينازعه منازع، في الحفاظ على الدين والذب عنه إلى قيام الساعة، فقد روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة”[11]؛
• قال الطرطوشي (تـ520هـ) في رسالته التي بعثها إلى يوسف بن تاشفين: “… والله أعلم هل أرادكم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أهل المغرب لما هُم عليه من التمسُّك بالسُّنَّة والجماعة، وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح رضي الله عنهم، فشَرُفوا بهذه المآثر شرفا، وشغفوا بهذه المفاخر شغفا”[12]؛
• وقال الجزنائي: “وأهل الغرب هم أهل المغرب الذي هو ضد المشرق على أصح التأويلات وأوضح الدلالات”[13]؛
• يقول شهاب الدين القرافي في معرض ذكره لوجوه ترجيح مذهب مالك: “ومنها ما ظهر من مذهبه في أهل المغرب، واختصاصهم به وتصميمهم عليه، مع شهادته عليه السلام لهم بأن الحق يكون فيهم ولا يضرهم من خذلهم إلى أن تقوم الساعة، فتكون هذه شهادة له بأن مذهبه حق؛ لأنه شعارهم ودثارهم ولا طريق لهم سواه، وغيره لم تحصل له هذه الشهادة”[14]؛
• يقال إن المشرق بلد الأنبياء والمغرب بلد الأولياء، فهو زاخر بالرموز الروحية التي خدمت المغرب على كافة المستويات: الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما عبّر عن ذلك الإمام الجنيد بقوله: “… أولئك أعلام لمناهج سبيل هدايته، ومسالك طرق القاصدين إلى طاعته، ومنار نور على مدارج الساعين إلى موافقته. وهم أبين في منافع الخليقة أثرا، وأوضح في دفاع المضار عن البرية خبرا، من النجوم التي بها في ظلمات البر والبحر يُهتدى، وبآثارها عنه ملتبس المسالك يُقتدى…”[15]؛
• الفوائد الكثيرة والمتعددة المستفادة من ذكر سيرهم وأخبارهم، ودورها في الاقتداء الحسن بالفعل الأمثل، كما قال الشاعر:
فتشبّهــوا إن لم تكونـــوا مثلهم إن التشبُّــــــه بالكــــــــرام فلاح
والتصوف كان ولا يزال أهم ثوابت الأمة المغربية وركائزها الروحية، والكتابة عن رجالاته وتخليد آثارهم، هو زيادة في ترسيخ الجانب الروحي الأخلاقي في وجدان المغاربة وعقولهم، ورسالة مباشرة للخلَف بضرورة الاهتمام برموزهم وأعلامهم ومحاولة التأسي بهم وبمناقبهم.
—————————————
1. بحار الولاية المحمدية في مناقب أعلام الصوفية، جودة محمد أبو اليزيد المهدي، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1418ھ/1998م، ص: 325.
2. صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي (194-256هـ)، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1425هـ/2004م، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم 6502.
3. قضية التصوف: المنقذ من الضلال، عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة، ط6، 2008م، ص: 378.
4. سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، أبو عبد الله محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني (1274-1345ھ)، تحقيق: عبد الله الكامل الكتاني، حمزة بن محمد الكتاني، محمد حمزة بن علي الكتاني، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1425ھ/2004م، 1/12.
5. جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التيجاني، علي حرازم ابن العربي براده المغربي الفاسي، ضبطه وصححه وخرج أحاديثه: عبد اللطيف عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1428ھ/2007م، 1/5.
6. ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة، عبد الله كنون، قدم له واعتنى به ورتب تراجمه إلى طبقات: محمد بن عزوز، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ط1، 1430ھ/2010م، 1/أ. (من مقدمة التحقيق).
7. سلوة الأنفاس، 1/8.
8. تاج العارفين الجنيد البغدادي، سعاد الحكيم، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط 3، 2007م، ص: 110.
9. صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر، محمد بن الحاج بن محمد بن عبد الله الصغير الإفراني (1080-1155ھ)، تقديم وتحقيق: عبد المجيد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1425ھ/2004م، ص: 5.
10. المسند، أحمد بن محمد بن حنبل (164-241ھ)، شرحه وصنع فهارسه: حمزة أحمد الزين، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1416ھ/1995م، حديث عمران بن حصين، رقم 15486.
11. شرح صحيح مسلم، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت676ھ)، حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي وحازم محمد وعماد عامر، دار الحديث، القاهرة، د.ط،1426 ھ/2005م، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، رقم 1925.
12. التشوف إلى رجال التصوف، ابن الزيات يوسف بن يحيى التادلي (ت627ھـ)، تحقيق: علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1427ھ/2007م، ص: 14.
13. جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس، علي الجزنائي، تحقيق: عبد الوهاب ابن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، ط2، 1411ھ/1991م، ص: 5.
14. الذخيرة، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت684ھ)، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1994م، 1/35.
15. تاج العارفين، ص: 304.
أرسل تعليق