حالة المعرفة في حقل علوم القرآن نحو استئناف العمل البنائي والتجديدي لعلوم القرآن… (1)
منذ اكتمال نزول الوحي والتحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى. عكف المسلمون خلفا عن سلف على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تدبرا وتفكرا واستنباطا واستلهاما باعتبارهما مصدري التشريع اللذين ينبغي أن تدار أمور الحياة كلها وفقا لهدايتهما وإرشادهما.
وقد اختلفت علاقة المسلمين بكتابهم وسنة نبيهم تمثلا وتأسّيا باختلاف العصور والأجيال، فلم تكن الحاجة قائمة على عهد الصحابة رضوان الله عليهم إلى تدوين العلوم وضبطها وتقعيدها؛ إذ كان العلم سلوكا والتزاما، فلما دعت الحاجة إلى التدوين حين كثر اللحن وتجرأ أناس على النصوص، نهضت همم العلماء لتدوين هذه العلوم[1]، فكانت الكتب والمدونات الأولى المؤسسة في كل علم، ثم تواتر التأليف بعد ذلك شرحا واختصارا واستدراكا واستئنافا للنظر.
ولقد كان مدار كل هذه العلوم في البداية على النص نشأة وتداولا، حيث كانت في منطلقها متمثلة له علما وعملا، مما جعلها تنفتح بهدايته على الكون وعلومه وعلى الإنسان ومعارفه وتشيد عالميتها الرائعة الأولى. والتي تجلت فيها فعلا أبرز خصائص الوحي وعكست بقدر طيب نوره وإشعاعه في الهداية والرحمة والعدل والحرية والأمن… كما تجلت فيها أيضا كثير من القيم العليا المزكية للإنسان والبانية للعمران[2].
يتبع في العدد المقبل..
———————-
1. كانت علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي أول شيء ظهر في الإسلام، وكانت العمدة فيها على التلقي والمشافهة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تلقى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتناقل ذلك التابعون عن الصحابة الكرام وهكذا. ولمّا كانت كتب التفسير بدأ تدوينها في القرن الثاني والثالث الهجريين، وكانت مسائل هذا العلم جزءاً من علم التفسير اقتضى هذا الأمر تدوين بعض قضايا علوم القرآن مبكرة كذلك، وكان من الطبيعي أن تحتوي بعض كتب التفسير على مقدمات في علوم القرآن كتفسير الإمام الطبري (تـ 310هـ/922م) “جامع البيان في تفسير آي القرآن“، وتفسير ابن عطية الأندلسي (تـ542هـ/1147م) “المحرر الوجيز”، وتفسير القرطبي (تـ671هـ/1276م) “الجامع لأحكام القرآن” وغيرها. ثم بدأت التآليف لنوع واحد من علوم القرآن كأسباب النزول الذي ألف فيه شيخ البخاري علي بن المدِيني (234هـ)، والناسخ والمنسوخ، وفضائل القرآن والأحرف السبعة وغيرها إلى أن قام الإمام ابن الجوزي (تـ597هـ) بجمع هذه الأنواع في كتاب سماه “فنون الأفنان في عيون علوم القرآن” ثم توالت التآليف بعد ذلك وكان أشهر كتابين؛ كتاب: “البرهان في علوم القرآن” للزركشي (تـ794هـ)، و”الإتقان في علوم القرآن” للسيوطي (تـ911هـ).
2. تعددت مدارس التفسير بقدر العلوم التي كانت شائعة إبان ظهورها، وقد أعجبني قول السيوطي في الإتقان، قيد الكلام عن مختلف التيارات التي ظهرت في التفسير بعد ابن جرير الطبري، حيث قال: “ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في علوم، فكان كل واحد منهم يقتصر في تفسيره على الفن الذي يغلب عليه، فالنحوي تراه ليس له هم إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه، ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته، والإخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها والإخبار عمن سلف، والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه من باب الطهارة إلى أمهات الأولاد، وربما استطرد إلى إقامة الأدلة الفقهية، والجواب على أدلة المخالفين، وصاحب العلوم العقلية قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبهها، وخرج من شيء إلى شيء حتى يقضي الناظر العجب من عدم مطابقة المورد للآية، والمبتدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد، بحيث إنه متى لاح له شاردة من بعيد اقتنصها، أو وجد موضعاً له فيه أدنى مجال سارع إليه“. الإتقان، 2/243-244. وهذا هو الملاحظ من إسهامات المفسرين بمختلف مشاربهم في العطاء العلمي الذي وسع أفق الأمة، وكأني بالسيوطي قصد المتعسفة ممن تصدى لتفسير كتاب الله، فكانوا يلوون أعناق الآيات لتوافق نزعاتهم.
أرسل تعليق