حالة المعرفة في حقل علوم القرآن نحو استئناف العمل البنائي والتجديدي لعلوم القرآن.. (13)
إن حوار الإنسان مع الكون بهذا الحرص، مع استبطان أن هذا الكون نسق منظم، هو الذي يمكّن الإنسان من أن يُجريَ هذا الحوار في احترام للأبجد الكوني، واللغة التي يفهمها الكون، بحيث يصوغ أسئلته بها، وإلا فإن الكون يرفض إجراء الحوار، ومن ثم يتأبّى على التسخّر، ولذلك نجد أن هذه العلوم التي أثمرتها هذه القراءة في الكتاب المنظور “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الاِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ” [العلق، 1-2] هي التي أعطت علوم التسخير من إلكترونيك، ومن سبيرنطيقا، وطب، ومن علوم المجرة إلى علوم الذرة.
كذا الأمر بالنسبة للقراءة في الكتاب المسطور “اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الاِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” [العلق، 3-5]. وهي القراءة التي نجد الإمام محمد بن إدريس الشافعي (تـ 204هـ) كان كَلِفًا بها حين كان مهتما مغتما باكتشاف دليل القياس؛ حيث قرأ القرآن وختمه مرات، يقوم به الليل، ويتبتل به إلى الله تعالى، سائلا إياه جل وعلا أن يفتح له بدليل القياس، فما كان يتبين له، ويعاود الكَرَّة، يتحاور، وينظر في القرآن إلى أن ظهر له أن الدليل الذي يصلح أن يُستدلّ به على القياس هو قول الله تعالى: “فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الاَبْصَارِ” [الحشر، 2]، وكذا الأمر بالنسبة لدليل الإجماع، وعدد من الأصول التي ضمنها في كتابه التأصيلي الرائد لعلم أصول الفقه “الرسالة”. وهو ما أثر عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي (تـ 179 هـ) في مواضع متعددة، وهو حال الإمام ابن جرير الطبري (تـ 310هـ) في التفسير، وغير هؤلاء من الأئمة كلٌّ في مجاله، وكل في بابه.. حوار مستمر مع القرآن المجيد، وهذه هي علوم التيسير، أخذا من قوله تعالى: “وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ” [القمر، 17].
وحين كفّ الحوار في واقعنا الحضاري مع الكون للأسف، رأينا أننا أصبحنا نستهلك المنتجات التي ينتجها غيرنا؛ لأن علوم التسخير وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، رهينة بالقراءة في الكتاب المنظور، وأصبحنا عالة على ما كان عندنا قبلا، قبل أن نحتك بهذه الحضارة التي استمرت في حمل المشعل الذي استلمته غلابا من عندنا، واستمرت في هذه القراءة وفي هذا الحوار، توظيفا للكشوفات التي حصلت قبلا بناء عليها وإضافة إليها. فحين كف الحوار مع الكون في عالمنا، وفي فضائنا الحضاري، أصبحنا عالة على ما كان. فحين تغيب علامات الاستفهام، يغيب المنهج؛ لأن الذي يشي بالمنهج ويكشف عن وجوده هو التساؤل، وهو ما يبرز في قوله سبحانه: “عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ” [النبأ، 1-3]، وتستمر التساؤلات إلى قوله تعالى: “اِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً” [النبأ، 17] حيث تختم الحياة بيوم الفصل، يوم القيامة، مما يعني أن التساؤل وجب أن يكون مرافقا للإنسان إلى أن تنقضي حياته، نصوصنا اليوم فيها عقم من حيث علامات الاستفهام، وهو مؤشر على الحالة التي يوجد عليها الحوار مع الكتابين في عالمنا اليوم…
يتبع في العدد المقبل..
أرسل تعليق