حالة المعرفة في حقل علوم القرآن نحو استئناف العمل البنائي والتجديدي لعلوم القرآن… (4)
المقدمة الثالثة: أننا حين ننظر في القرآن المجيد نجد ضربين من العلوم: علوم التسخير انطلاقا من قول الله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ ءَلايَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية، 12]، وعلوم التيسير انطلاقا من قوله تعالى: “وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَان لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر” [القمر، 32].
علومُ التسخير تُدرَك من خلال النظر والتفكر “وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ” [آل عمران، 191]. وعلوم التيسير يمكن استخلاصها انطلاقا من التدبر “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ اَقْفَالُهَا” [محمد، 25].
والملاحظ هو أن علوم التسخير تطوّرت، وعلوم التيسير لم تتطور بالشكل ذاته؛ فعلوم التسخير تطورت بفضل الحوار المستدام بين الإنسان والكون، واجتهاد الإنسان من أجل استخلاص معالم الأبجد الكوني، واللغة التي بها يتم الحوار مع الكون، ممّا أدى إلى انفجار كل هذه العلوم التي نراها اليوم من الصناعات البسيطة إلى السبرنيطقا (la cybernétique) في تعقيداتها الكبرى، وكذلك في مجالات (Synthetic life) أي الحياة الاصطناعية التركيبية…
وتَبرز من خلال النظر في هذا الصوب قضية أخرى (المقدمة الرابعة)، دائما في ارتباط مع عدم تطور علوم التيسير، وهي وجود نبض معرفي رائع عند علماء الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين… حيث فُتح ملف علوم التيسير، كما رأيناه مع الإمام الشافعي في كتابه “الرسالة”، والإمام مالك، والإمام أبي حنيفة، والفقهاء السبعة قبل ذلك، حيث برزت بوادر علوم الفقه وأصوله؛ وعلوم القرآن والحديث واللغة والكلام وعلوم أخرى شكلت، بالفعل، مداخل للاستمداد من الوحي، ومن القرآن المجيد.
لكن بعد فترة قليلة من ذلك رأينا انحسارا غير قليل في هذه الجهود وفتورًا في ذاك النبض؛ إذ حصل عجز اللاحق أمام عمل السابق بسبب تعظيم وتعزير في أصلهما محمودين مباركين، غير أن ممارستهما غير الراشدة قد تؤدي إلى عدم التكامل بين مختلف أجيال الأمة وراء أسوتها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبدأت تبرز عبارات مثل “ليس في الإمكان أبدع مما كان” وأضحت كثير من الجهود إثر ذلك، شروحا لأعمال المتقدمين أو تصنيفا لها أو حواشي عليها أو تذييلا على الحواشي.
مع أننا حين ننعم النظر نرى بجلاء أن ثمة واجبا دينيا يتمثل في التجديد المستمر، وهو الذي يعبر عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يقول فيه: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين“[1]. فالتجديد في علوم التيسير في كل هذه المناحي أمرٌ فريضة على أهل الأمانة من العلماء، غير أننا نجد أن هذه الوظيفة لم يُستمر في القيام بها على وجه الكفاية كما يحض على ذلك هذا النص الكريم وأمثاله..
يسجَّل أيضا في تاريخنا العلمي بهذا الصدد التباس بخصوص ماهية الفهوم السليمة، حتى كأنه ينطبق علينا قول القائل:
وكلٌ يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
ممّا يقتضي نهضة لتجريد معالم مناهج الاستمداد من الوحي وتوضيحها بجلاءٍ برهاني يتكامل عبر الزمن حتى تضيق مجالات الالتباس والغموض..
يتبع في العدد المقبل..
——————————————————
1. رواه الإمام أحمد وصححه، ورواه البيهقي.
أرسل تعليق