جوانب من تاريخ المعرفة الطبية بالمغرب.. (1)
إن العلاج الطبي العلمي بالمغرب قد أسس في مجمله على مبادئ ومناهج وتقنيات علمية، كان للنهضة العلمية الأندلسية في مجالي الطب والفلاحة أثر كبير فيها. ولعل في إقدام الحكم المستنصر على إقامة خزانة متخصصة بالقصر للطب لم يكن قط مثلها، ما يكشف ليس فقط على غزارة ما وضعه الأندلسيون من مصنفات في الطب، بل وكذلك عن حجم ما تراكم لديهم مما جمعوه من كتب في هذا الميدان، دون ذكر ما يند عن الحصر من المصنفات والتقاييد التي يحتفظ بها الطبيب في خزانة كتبه الخاصة.
ومن خلال إخضاع عينة من الإرث الطبي المحفوظ للدرس والتحليل، يتجلى تعدد المواضيع وتنوع المستويات التي طالها الاهتمام، فبصرف النظر عما يتعلق بفصول المعالجة يذكر فيها السبب والعلامات والعلاج لما يتعلق بظاهر البدن وباطنه من أمراض، وما كتب في مجال الوقاية “لحفظ الصحة في الفصول“، وفي الفصد والحجامة، والجراحة والتشريح والتخدير، تجردت المصنفات الطبية العامة للبحث في خصائص الجسم عموما وفي الاختلافات حسب السن، كما وجه الاهتمام للبحث في تنوع الأجناس، وفي قوى الجسم الطبيعية والنفسية، وتأثير الاختلافات المناخية والإقليمية، وفي أثر الأغذية والأشربة، والمحيط البيئي العام. وأفردت مصنفات لذكر مختلف أعضاء البدن، وبتحديد أنواع الأمراض الخاصة بكل عضو على حدة، ووصف أشكال العلاج المتاحة في الحالات العادية والمستعصية، وكذا حصر إمكانات ووسائل الوقاية مما يند عن الحصر من الأمراض، إضافة إلى تتبع “العلل المعروفة من رأس الإنسان إلى قدميه” بالدراسة والتفصيل”[1].
وبرغم استمرار الخلاف بين الأطباء المغاربة حول إدراج المستوى النفسي في التطبيب، فسرعان ما تأكد -وإن بشكل تدريجي- كتخصص مستقل ضمن الممارسة الطبية، بالمشرق والمغرب على السواء. وهو الفرع الذي نعث حينا باسم “الطب الروحاني“، وحينا باسم “الطب الحسي والمعنوي“، وأحيانا باسم “طب النفس ومداواة الأخلاق”[2].
إن الدول التي تعاقبت على حكم المغرب قد اهتمت بتوفير نوع من العلاج مؤسس على العلم والتجربة، وذلك عن طريق تأسيس المارستانات وتنظيم التعليم الطبي؛ يقول عبد الواحد المراكشي متحدثا عن المارستان الذي أسسه يعقوب المنصور بمراكش: “لم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كل من مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت”[3].
بجانب هذه المؤسسات الاستشفائية نجد أيضا أطباء كانوا يعملون لحسابهم الخاص، ويبدو أن أجرة هؤلاء كانت مرتفعة، فمثلا بلغت أجرة الطبيب ابن أفلاطون بفاس مائة ألف دينار[4]. وكان أغلبهم يستقر بالمدن الكبرى، كفاس ومراكش، وسبتة، كما كان أغلب ممتهني هذه الحرفة من أهل الذمة[5]، لهذا دعى العبدري “طلبة العلم ومن فيه أهلية للفهم والمعرفة أن يشتغل به من المسلمين“[6].
وازدهر علم الأغذية بشكل ملفت للنظر، فهذا ابن زهر –طبيب البلاط الموحدي- في كتابه “الأغذية” يقول أن من خاصية لحم الدجاج “أن أمراقها متى شربت تفايا عدلت المزاج وكذلك تسقيها لمن ظهر عليه الجذام، وهذه اللحوم كلها نافعة[7]، أما العصافير (..) فكلها نافعة من الفالج واللقوة وللبصابص قوة في تفتيت الحصى، والخرنوب يجب أن يأكله من به إسهال في أول طعامه[8]. وحظيت الأعشاب والنباتات البرية بمكانة بارزة في هذا الصنف من العلاج، واعتبرت المصدر الرئيسي في صناعة الدواء، ويذكر صاحب كتاب “الاستبصار” أن في جبل فازاز “أنواع النباتات من العقاقير التي تنصرف في العلاجات الرفيعة“[9].
وقد انتشرت كثير من المحلات المتخصصة في بيعها، إلا أن بعض العطارين أساءوا استخدام هذه الأعشاب، مما أثار حفيظة بعض المحتسبين، كالسقطي الذي طالب بضرورة مراقبتهم والتشدد معهم[10]. وأعطى العبدري أمثلة لبعض أنواع الغش، التي كانت تطال صناعة الأدوية والعقاقير، من ذلك أنه “إذا أفتى الطبيب مثلا بأوقية من شراب الورد أعطاه الشرابي شرابا عقد منه بالماء شرابا لا طعم للورد فيه، وكذلك يفعلون بشراب الأسطوخودس وغيره (..) فلا ينفع المريض بشيء[11].
ويبدو أن إقبال الناس على هذا النوع من العلاج كان ضعيفا لارتفاع تكلفته[12]، من جهة، وتحفظ الناس من التداوي عند الذمي؛ لأن دواء اليهودي أو النصراني مضنون“[13]. وقد حظي الطب بقسط وافر من اهتمام جامعة القرويين بالعلوم التطبيقية باعتبار أن للطب نوعا من القداسة جعلت منه طرفا من العلوم الإسلامية[14].
إن إسهام جامعة القرويين النوعي في الطب قد أتاح للثقافة المغربية ممارسات عملية وعلمية ضمنت حضورا مزدهرا منذ وقت مبكر بدءا من القرن العاشر الميلادي / الرابع الهجري، وقد لاحظ لوكلير Leclerc في هذا الصدد أن المغرب أشد بلاد الإسلام عمقا من الناحية العلمية[15]..
لقد كان للطب في العصر الموحدي مكانة كبرى في الدولة والمجتمع، وقد اهتم به الموحدون، وبخاصة يوسف ويعقوب، اهتماما كبيرا، فقد بنوا المستشفيات ونظموا هذه المهنة وجعلوا لها رؤساء، منهم أبو جعفر الذهبي الذي كان مزوارا للأطباء”[16]، وكان الطب يدرس على عهدهم بالمغرب، ومن أساتذته أبو الحجاج يوسف المريبطري[17]، أما فن الصيدلة فكان له هو الآخر ازدهار على هذا العهد، وكان موظفا بمستشفى مراكش وببلاطات الخلفاء عدد من الصيادلة[18]..
يتبع في العدد المقبل
—————————————-
1. أحمد الطاهري. الطب والفلاحة في الأندلس بين الحكمة والتجريب. مطبعة النجاح الجديدة. 1997. ص: 41-42.
2. نفس المرجع. ص: 43-44.
3. عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص: 412.
4. ابن الزيات التادلي، التشوف إلى رجال التصوف ص: 269.
5. عبد الرحمن البشير، اليهود في المغرب العربي (22 – 462 هـ / 642 – 1070 م) دار تارنيت للطباعة مصر، 2001، ص: 98.
6. ابن الحاج العبدري المالكي الفاسي، المدخل. مكتبة دار التراث، القاهرة، ج: 4، ص: 140.
7. الأغذية، ص: 17.
8. نفسه. ص: 54.
9. الاستبصار، ص: 187.
10. أدب الحسبة، ص: 45.
11. المدخل، ج: 4، ص: 143.
12. أحمد المحمودي: عامة المغرب الأقصى في العصر الموحدي. جامة المولى إسماعيل، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، 2001، ص: 106.
13. ابن الزيات، التشوف، ص: 123؛ إبراهيم القادري بوتشيش الجاليات المسيحية بالمغرب الإسلامي خلال عصر الموحدين، دار الطليعة، بيروت، 1994، ص: 102.
14. تعليم الطب بالمغرب والعالم الإسلامي، عبد العزيز بنعبد الله، مجلة أكاديمية المملكة المغربية، ع 15، دجنبر 1988، ص: 25.
15. L. Leclerc, l’histoire de la médecine arabe وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط 1980، وانظر: م.س، ص: 31.
16. طبقات الأطباء، “2” 77.
17. المصدر المذكور، “2” 81.
18. المنوني، محمد.العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين، الطبعة الثانية الرباط 1397 هـ.
أرسل تعليق