جوانب من تاريخ المعرفة الطبية بالمغرب (6)
في عصر الدولة السعدية، لاسيما زمن أحمد المنصور الذهبي، نبغ طبيب رفع من قيمة العصر الذي عاش فيه هو أبو القاسم بن أحمد بن عيسى المعروف بالغول الفشتالي، ألف كتاب حافظ المزاج ولافظ الأمشاج بالعلاج؛ وهذا الكتاب عبارة عن منظومة رجزية تقع في نحو خمسمائة وألف بيت، مرتب على أربعة وعشرين باباً؛ فيها الحديث عن وجع الرأس والشقيقة والزكام والقروعة وجرب الرأس وداء الثعلبة، وهو الذي نسميه بـ “الثنية”، وختم بالباب الرابع والعشرين الذي تحدث فيه عن أنواع الأشربة والمربيات والأدهان والأوزان والمقادير[1].
وقد كان للطب في العصر السعدي مزيد اعتناء بأهله واهتمام بشأنه، ومما يدل على ارتقاء شأن الطب في هذا العصر ما وصفه السلطان أحمد المنصور الذهبي في كتابه لولده بمراكش عند ظهور الوباء من أنواع الوقاية والعلاج ونص المراد منه: “وإلى هذا -أسعدكم الله- أول ما تبادرون به قبل كل شيء هو خروجكم إذا لاح لكم شيء من علامات الوباء ولو أقل القليل حتى بشخص واحد، ثم لا تغفلوا عن استعمال الترياق أسعدكم الله، فالزموه إذا استشعرتم بحرارة وتخوفتموها فاستعملوا الوصف من الوزن المعروف منه ولا تهملوا استعماله، وأما ولدنا -حفظه الله لمكان الشبيبة- فحيث يمنعه الحال من المداومة على الترياق، فها هي الشربة النافعة لذلك قد تركناها كثيرة هُنَالِكُمْ عند التونسي فيكون يستعملها هو والأبناء الصغار المحفوظون بالله حتى إذا أحس ببرد المعدة من أجلها تعطوه الترياق فيعود إليها. والبراءة التي ترد عليكم من سوس أو من عند الحاكم أو من عند ولد خالكم أو من عند غيرهما لا تقرأ ولا تدخل داراً، بل تعطى لكاتبكم هو الذي يتولى قراءتها ويعرفكم مضمنها، ولأجل أن الكاتب يدخل عليكم ويلابس مقامكم فلا يفتحها إلا بعد إدخالها في خل ثقيف وتنشر فتيبس وحينئذ يقرأها ويعرفكم بمضمنها إذ ليس يأتيكم من سوس ما يستوجب الكتمان[2].
وقد أشار الحسن الوزان (ليون الإفريقي) إلى الأمراض التي كانت منتشرة في هذا العصر (القرن العاشر الهجري) نذكر منها الطاعون ثم الصرع أو داء النقطة وحب الإفرنج، وهو مرض الزهري المعروف في المغرب بالنوار؛ وداء المفاصل والجرب (الحكة) والقرع، وتضخم الغدة الدرقية وداء الغباوة الناتج عن نقص في البنية. ويكثر ذلك في البداية، وبالخصوص حيث يكثر الفقر والماء الممزوج بالجير وداء الجذام الوراثي، وذكر كودار في تاريخه أن اليهود الأندلسيِّين اللاجئين إلى المغرب هم الذين أدخلوا الأمراض التناسلية مثل الزهري[3]..
ومن أطباء العصر السعدي محمد بن سعيد المرغيثي السوسي، (1598م/1678م)؛ وكان قد تصدر بمراكش لعلاج الناس مدة، ولكنه اعتزل التطبيب بسبب أن إنساناً حمل إليه قارورة فيها بول مريض وهو بالمسجد؛ فاستاء من ذلك، وقال: إن عملاً يؤدي إلى أن أكون سبباً في دخول النجاسة للمسجد لا أشتغل به!! ومن أطباء هذا العصر أبو علي الحسن بن أحمد المسفيوي المراكشي الطبيب (1560 م/1594م): أخذ علم الطب على شيخه أبي القاسم الوزير الغساني، وكان المسفيوي على إلمام ببعض اللغات الأجنبية، ولذلك ذكر المقري في “النفح” أنه قام بتعريب بعض الكتب بإذن من السلطان أحمد المنصور الذهبي. وابن عزوز المراكشي الذي ألف كتاب ذهاب الكسوف في طب العيون؛ وأبو القاسم الوزير الغساني من أهل فاس، كان طبيباً ماهراً، اختص به السلطان أحمد المنصور الذهبي فصيره من أطبائه وقربه إليه، بل واعتمد عليه في خطة لإصلاح مهنة الطب بالمغرب:
قال عنه أحمد المقري في نفح الطيب: “العلم الجليل علماً وقدراً العلامة المتفنن، ذو التآليف المفيدة والعلم الغزير الفقيه أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني، أخذ الطب عن والده محمد (..) ولكنه تفرد بعلم الطب وصار مرموقاً في العاصمتين مراكش وفاس معروفاً بهذه المهنة راسخ القدم فيها، وله في هذا العلم مؤلفات خدم بها البلاط السعدي في عهد أحمد المنصور الذهبي.
ألف الوزير الغساني كتاباً سماه: حديقة الأزهار في الأعشاب والعقار، وهو المعروف بكتاب الأدوية المفردة، وبشأن هذا الكتاب يقول المقري : “حديقة الأزهار في ماهية الأعشاب والعقار كتاب في بابه لم يؤلف مثله؛ يذكر سائر الأعشاب والعقاقير بما سميت به في الكتب، ثم يذكر اسمها بلسان العامة، ثم يذكر خواص الأعشاب على وجه عجيب وأسلوب غريب“. وتجدر الإشارة إلى أن الطبيب الوزير الغساني كان على دراية باللغات الأجنبية، ولعلها اللاتينية القديمة والبرتغالية والإسبانية؛ وقد نشرت دراسة لكتاب حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار أبرزت فيها أن كتاب الوزير الغساني هو استمرارية لكتاب عمدة الطبيب في معرفة النبات لأبي الخير الاشبيلي الذي ألف خلال العصر الموحدي[4].
رتب الوزير الغساني كتابه على الحروف الأبجدية باصطلاح المغاربة، يذكر الاسم العلمي –المتداول في عصره، وهو اسم عربي- للمادة الطبية المفردة ثم يشرح ماهيتها ويصف شكلها وأجزاءها بشكل دقيق واصفا الجذور و الأغصان والأزهار والثمار. ومن مزايا كتاب الوزير الغساني ذكره الأسماء المتعددة للنبات الواحد و وصفه البيئة التي تنبت فيها النباتات، ويذكر اسمها الشائع على لسان العامة في المغرب بالدارجة المغربية –خصوصا لهجة أهل فاس- أو باللسان الأمازيغي، وبعد أن يوضح ماهية المادة النباتية ينتقل إلى بيان طبيعتها وأخيراً يذكر خواصها ومنافعها الطبية أو مضارها إن اقتضى الحال من غير دخول في التفاصيل المتعلقة بالمقادير وطريقة التحضير إلا نادراً، ثم يختم بذكر بدلها succédané إذا تعذر وجودها. ولم يهتم الوزير الغساني بالمواد الحيوانية و المعدنية إلا نادرا. تناول الغساني في كتابه بالشرح نحو 380 مادة مفردة معظمها من جنس النبات، وعدد المفردات الحيوانية والمعدنية التي ذكرها في كتابه سبع.
اعتمد الوزير الغساني على المعاينة والملاحظة المباشرة عبر الرحلات الاستكشافية التي كان يقوم بها… فنجده في عدة مواضع يقول مثلاً: “ولقد رأيته كثيراً ووقفت عليه بجبال تاغيا وقطفته هنالك بيدي”؛ و”قد رأيت منه شجرة واحدة عندنا بفاس..“. كما أننا نجده في حالات أخرى ينقل عن مصادر موثوقة يختارها. من ذلك مثلاً: “ولقد حدثني والدي.. أنه رآه ووقف عليه..”، وفي مكان آخر: “وحدثني والدي.. أنه رأى أخرى“[5].
يأتي كتاب الوزير الغساني حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار باعتباره جردا ووصفا دقيقا للنباتات الطبية المستعملة في العلاج في العصر السعدي، مع ذكر الخصائص النباتية والمعطيات البيئية والاستعمالات الطبية، بالإضافة إلى معلومات اقتصادية واجتماعية ذات أهمية بالغة بالنسبة للمؤرخين والأنثروبولوجيين.. والجدير بالملاحظة أنه إذا كان الوزير الغساني يشبه في طريقته طريقة أبي الخير الاشبيلي من حيث العناية بالتصنيف النباتي الدقيق، فإنه تميز عنه بإعطاء حيز لا يقل أهمية للخصائص العلاجية للنباتات التي يصفها..
ومما أثارني عند دراسة كتاب الوزير الغساني هو وقوفه في غابة المعمورة –قرب مدينة سلا- بالمغرب على شجيرة الكُمثري (الأجّاص) البري Pyrus mamorensis الذي يبدو من خلال اسمه العلمي أنه خاص بمنطقة المعمورة ولا يوجد بغيرها، يقول الوزير الغساني: “والبري هو الإنْجاص الشتوي المعروف، منابته الغاب والأرض المكللة بالشجر، ولقد رأيته ووقفت عليه بغابة المعمورة بقرب مدينة سلا“، وهذه معلومة بالغة الأهمية من حيث التوطين الذي يقدمه الوزير الغساني لنبتة قبسيةEndémique في مغرب القرن السادس عشر..
ونجد الغساني في مواضع أخرى عندما يتعلق الأمر بمواد مستوردة من بلاد بعيدة، لا يكتفي دائماً بالنقل عن كتب القدماء الموثوق بها، بل يجتهد في تعرّف تلك المواد عند باعة العطور والأعشاب والمواد الصيدلية؛ كما أنه يلجأ إلى سؤال الرحالة والتجار لاستكمال معلوماته حول المواد النادرة التي أغفلها سابقوه. ومن ذلك ما يحكيه عند تعريفه خرّوب السودان: “لم يذكره أحد من الأطباء القدماء والمتأخرين إلى هلم جراً، وإنما استخرج بعدهم. حدثني من أثق به من التجار المسافرين للسودان أن شجرته تشبه شجرة النارنج شكلا وورقا..”[6].
وقد امتاز الغساني “بالوضوح في الوصف، والاقتصاد في التعبير، وسلك مسلكا جعله يهتم بالزهور والثمار والبزور والجذور والأوراق، ويلاحظ وجود نباتات طفيلية، ولا يخوض فيما لم يشاهده ولم يعرفه، ثم إنه قد اهتم بالبيئة الطبيعية التي تعيش فيها بعض النباتات، وهو ما يطلق عليه علماء النبات المعاصرون: Biotope“[7]، كما حاول الغساني في حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار وضع نسق تصنيفي للأعشاب الطبية التي درسها في الميدان، مستخلصا منهجه التصنيفي من كتاب عمدة الطبيب في معرفة النبات لأبي الخير الأشبيلي محييا بذلك كتابا ظل “صامتا” لقرون، وهذه قيمة مضافة تحسب للوزير الغساني..
هناك قيمة علمية أخرى لكتاب حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار تتمثل في جرده للنباتات الطبية التي كانت منتشرة عند باعة الأعشاب والعطارين والصيادلة في عصره خصوصا في مدينة فاس؛ بالإضافة إلى معلومات وافية يقدمها المؤلف حول أماكن جلب النباتات التلقائية والمستوردة، ومعلومات حول التجارة في فاس خلال القرن السادس عشر والعادات الحضرية لأهل فاس..[8].
إن معظم النباتات التي جردها الوزير الغساني قد عاينها ميدانيا بنفسه خلال رحلاته المتعددة، كما اعتمد على معلومات والده الذي يغلب على الظن أنه كان طبيبا[9]. ويؤكد المؤرخ رينو تفرد الغساني في عصره بقوله ” يعد الغساني ذهناً متميزاً إذا قيس بعصره وبينته، والحكم على أثاره لا يتأتى دون مقارنتها بالعديد من مصنفات المادة الطبية لمؤلفين عرب آخرين”[10] انطلاقا من هذه الملاحظات يمكن اعتبار الوزير الغساني مؤلفا أصيلا، ذلك أنه فطن -في عصر تميز بالجمود العلمي في ميداني علم النبات والطب- إلى منهج أبي الخير الأشبيلي من خلال كتابه عمدة الطبيب الذي كان قد طاله النسيان في القرن السادس عشر إلى أن بعثه الوزير الغساني من مرقده، لذلك يستحق هذا العالم أن يوضع في قمة المؤلفين في علم النبات الطبي في العالم الإسلامي..
يتبع في العدد المقبل..
—————————————
1. ترجمة الغول الفشتالي للأستاذ عبد الله كَنون، جريدة الميثاق، العددان: 227 و 228.
2. كنون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي، لبنان، الطبعة: الثانية. 1962، ص: 252.
3. بنعبد الله عبد العزيز، الطب والأطباء بالمغرب، المطبعة الاقتصادية. الرباط، 1958، ص: 62.
4. جمال بامي. 2012، دراسة في كتابي “عمدة الطبيب” لأبي الخير الإشبيلي، و”حديقة الأزهار” للوزير الغساني. هاديات من التراث لتطوير علم النبات الطبي بالمغرب.
5. الملاحظ أن أبا القاسم الغساني اعتمد كثيراً على معرفته المباشرة بالأعشاب التي وقف عليها بنفسه بالمغرب. وأما أعشاب البلاد البعيدة أو التي تعذر عليه الوقوف عليها، فهو ينقل عن مصادر سابقة. ونبه المحقق الأستاذ الخطابي على أن أهمها كتاب عمدة الطبيب في معرفة النبات لأبي الخير الأشبيلي (ق. 6 هـ/ 12 م). هذا الكتاب نشر أيضاً بعناية الباحث نفسه، وصدر عن أكاديمية المملكة المغربية في مجلدين. 1990.
6. الغساني الوزير، حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار، تحقيق محمد العربي الخطابي. 1989، ص: 324.
7. محمد العربي الخطابي. مقدمة تحقيق كتاب “حديقة الأزهار” ص :ي-ك.
8. أحيل هنا على مقال عبد الأحد الرايس: الفوائد التاريخية لتصنيف النباتات بفاس من خلال كتاب “حديقة الأزهار” لأبي القاسم الغساني (ق 10 هـ/ 16 م) مجلة التاريخ العربي ع: 18، رييع 2001.
9. Jamal Bellakhdar, Op.Cit.
10. Renaud H.P.G. Op.Cit.
أرسل تعليق