جوانب من تاريخ المعرفة الطبية بالمغرب (3)
ليس هناك في نظري كتاب أكثر تعبيرا عن عقلية علمية موضوعية في التعامل مع عالم النبات في الغرب الإسلامي من كتاب “عمدة الطبيب في معرفة النبات“؛ يقول محقق الكتاب محمد العربي الخطابي في المقدمة: “اتجهت إلى استفسار كتاب عمدة الطبيب، فتبين لي من خلال تأمل مواده وفصوله أن مؤلفه يجمع بين الإطلاع على مسائل اللغة ومظانها والمعرفة الواسعة بشؤون الفلاحة والغراسة مع المزاولة الفعلية لهما، بالإضافة إلى معارفه الطبية و الصيدلية وتمرسه بمعاينة الأعشاب في منابتها الطبيعية ومقارنة أعيانها والدقة في التفريق بين مختلف أجناسها مع كثرة التجوال في بلاد الأندلس والمغرب بغرض البحث في حقيقة الأعشاب ومشاهدتها في منابتها والتأكد من ماهيتها”[1].
ويعتبر الدكتور جمال بلخضر[2] أن كتاب “عمدة الطبيب في معرفة النبات” لأبي خير الاشبيلي هو المحاولة الجادة الأولى في تاريخ علم النبات العربي من حيث التصنيف العلمي للنباتات، وقد كان سائدا قبله نسقThéophraste الذي تبناه معظم العلماء العرب الذين اهتموا بعلم النبات.
حاول ابن جزلة وابن بطلان أن يبدعوا طريقة في تصنيف النباتات تعتمد على تقنية الجدول، ومفادها توزيع النباتات والعقاقير على جداول اعتمادا على خصائص ومؤشرات، لكن يبقى هذا المنهج عملا تقنيا ديداكتيكيا بعيدا عن عمق العمل التصنيفي، ويمكن اعتبار عملي ابن بطلان وابن جزلة مرحلة غير مكتملة العناصر من حيث القواعد العلمية للتصنيف النباتي[3]، وهما أيضا عملان يعبران عن “رؤية للعالم” وتصور للطبيعة سيتم تجاوزهما من طرف أبي الخير الإشبيلي..
يتميز كتاب “عمدة الطبيب” بتماسك نظري ومنهجي كبير، وتسود كل أجزائه عقلانية بادية مع تتابع منطقي للأفكار، وتبدو التصورات واضحة في كتاب أبي الخير الاشبيلي كما أن التعليلات والبراهين فيه واضحة، مع وضوح المعاني وسلامة التركيب.
وعلى خلاف مع معظم الكتب المتعلقة بعلم النبات الطبي، يبدو كتاب أبي الخير الاشبيلي مركزا بشكل شبه مطلق على علم النبات، ونادرا ما يذكر الخصائص العلاجية للنباتات التي يذكرها، وهذا ينم عن وضوح شديد في رؤية الكاتب الذي أراد أن يكون دقيقا في مقصده المتمثل في تقديم “مادة علمية نباتية خالصة” تكون عونا للطبيب في معرفة النبات المستعمل في العلاج؛ وهنا تبدو القيمة المضافة الأساسية لكتاب “عمدة الطبيب“..
أما أسلوب أبي الخير فيمتاز بالوضوح والدقة والإيجاز، وتجنّب الحشو والاستطراد. وقد صاغ ذلك بلغة عربية ناصعة، يحسن اختيار الألفاظ أو المصطلحات التي توضح الفكرة وتخدم الموضوع في صياغة علمية تجنح إلى التشبيه أحياناً للإيضاح كما في قوله: “وله زهر كزهر الزعفران” أو “عليه قشر أسود مائل إلى الصفرة يشبه بصل النرجس”..
وقد “رتب المؤلف كتابه على حروف المعجم بالترتيب السائد في بلاد الغرب الإسلامي، وحقق اسم النبات، عربيا كان أو أجنبيا، ثم بيّن ماهيته و أجزاءه من ورق وساق وزهر وثمر وبذر وجذر ويذكر ألوان الزهور والأوراق والأصول وشكل البذور وطول الساق بالشبر والذراع والقامة وذكر بيئة النبات الطبيعية وأماكن وجوده، وعدّد في كثير من الأحيان أجناسه و أصنافه المتقاربة على أساس “المشاكلة” التي بنا عليها نظامه التصنيفي، وكثيرا ما يضبط أسماء النبات بمختلف اللغات، ومنها اليونانية واللاتينية والفارسية والنبطية والأمازيغية وعجمية الأندلس (الرومانصية أو اللاتينية العامية)، وكثيرا ما يذكر الاسم العربي الدارج في الأندلس وفي البلاد الأخرى”[4].
ويمتاز كتاب أبي الخير الاشبيلي بكون جل النباتات الموصوفة في كتابه هي نتيجة لمعاينة شخصية للنبات في موطنه الأصلي أو مكان زراعته أو بعد مسائلة الرحالة العارفين عندما يتعلق الأمر بالنباتات المستوردة plantes exotiques، بحيث يعمد المؤلف إلى اختبارهم فيما يتعلق بالنباتات التي عاينوها في مواطنها الأصلية خصوصا: الصحراء الكبرى وإيطاليا والقسطنطينية واليمن والهند والصين وخراسان..
إن هذه الدقة في الوصف والتمييز بين الأعشاب وإفرازاتها انطلاقا من خصائص علمية منهجية واضحة هي ما يميز بحق هذا العالم المميز، بالإضافة إلى ولعه باستنبات البذور التي يجلبها من الطبيعة في مزرعة خصصها لذلك، من ذلك قوله –عندما كان يصف نبات الخردل: “وأما الأبيض فورقه كورق الفجل البري في هيأته وله ساق مجوفة تعلو نحو ذراعين، تفترق إلى أغصان رقاق بحمرة يسيرة، وعليه زهر أبيض يظهر في زمن الربيع تخلفه مزاود في رقة الميل، في داخلها حب مدحرج في قدر بزر الأكرنب، أبيض براق، وقد جمعته وزرعته مرارا“[5].
وهنا يبدو بشكل جلي بأن التعمق في المعرفة الطبيعية الدقيقة لا يدع أي مجال للخفي، ووفقا لقواعد علم النبات المعاصر يمكن اعتبار كتاب “عمدة الطبيب في معرفة النبات” لأبي الخير الاشبيلي من حيث وصفه الدقيق للنباتات مرجعا للتعرف على العديد من نباتات المغرب والأندلس[6].
والملاحظ أنه بموازاة الطب العالِم المتجسد في السياسة والمجتمع، ساد طب آخر عند العامة خلال العصر الموحدي، وقد سار النوعان من الطب جنبا إلى جنب؛ و “ولعل من بين المعتقدات التي استشرت بين أوساط العامة ظاهرة التنبؤ بالغيب سواء عن طريق فك الرموز ودلالات كف الشاه، أو عن طريق خط الرمل، كما شاع الاعتقاد بالجن، وبالتمسح ببركات الأولياء والصالحين، إما للاستشفاء أو لأغراض أخرى..
ارتبطت ذهنية العوام بطرق العلاجات المرتبطة بالخفي، فمصادر الفترة تزخر بأخبار ذوي العاهات والأمراض المزمنة بما فيهم النساء اللواتي كن يقصدن الصالحين وقبور الأولياء لأخذ شيء من ترابها للاستشفاء به، وبتأمل أثمان العلاجات الطبية والصيدلية وارتباط خدمات الأطباء وخبرتهم بمصالح علية القوم، نفهم أحد أسباب تخلي العامة عن زيارة الأطباء وعن الاستشفاء بالأدوية الصيدلية، وإن كنا لا نعدم إشارات تؤكد توسيع الخدمات الصحية لتشمل عموم الناس-لاسيما في فترة ازدهار الدولة-ولا أدل على ذلك تخصيص جزء من عائدات بيت المال للمارستان الذي شيده يعقوب المنصور الموحدي، وذلك لجعل الخدمات الطبية في متناول العامة، وتمكين المرضى والمساكين من التطبيب بالمجان ومساعدتهم للاندماج والعيش وسط المجتمع[7]..
يتبع في العدد المقبل
——————————————————
1. محمد العربي الخطابي، مقدمة “عمدة الطبيب في معرفة النبات“، منشورات أكاديمية المملكة المغربية. 1990، ص: 17.
2. Jamal Bellakhdar, 1997. La pharmacopée marocaine traditionnelle. IBIS PRESS. France.
3. Jamal Bellakhdar. Op.cit.
4. محمد العربي الخطابي، مقدمة تحقيق كتاب “عمدة الطبيب في معرفة النبات” 1990. الرباط-المغرب. ص 29.
5. الأشبيلي أبو الخير، عمدة الطبيب في معرفة النبات، ترجمة، تحقيق: محمد العربي الخطابي، الناشر: دار الغرب الإسلامي، 1995، ص: 260.
6. Jamal Bellakhdar, Op. cit.
7. أحمد المحمودي: عامة المغرب الأقصى في العصر الموحدي. جامة المولى إسماعيل، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، 2001، ص: 105-106.
أرسل تعليق