جدلية العلاقة بين مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان.. (2)
إن العقلية المعرفية التي يمكن أن يتصف بها الشخص ينبغي أن تكون عقلية العالم المسلم الذي يتعامل مع الشرع بوعي، وهو يعلم دور الشرع في حياة الإنسان، وهو تحقيق المصالح، وليس النص عليها فقط، أو مجرد تطبيقها دون وعي، أو معرفة مقاصدها، فالشريعة هي ما يقابل القانون بحسب فروعها، وليس ما يمنع من تسميتها بالقانون الديني أو القانون الإسلامي أو غيره[1]، ولكن لا بد من ربط خطاب الشرع بمقاصد الإنسان؛ لأن الإنسان هو محور الخطاب، وقد نظر الشاطبي إلى التكاليف الشرعية نظرة عقلية مستنبطة من استقراء الشرع نفسه، فوجد أن “تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصد الخلق، والخلق هم الإنسان والناس جميعاً، وأن هذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام“[2].
أحدها: أن تكون ضرورية
“معناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة، والنعيم والرجوع بالخسران المبين“[3].
في هذه القراءة للمقاصد الضرورية يبين الإمام الشاطبي، أنه لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، وهذا أمر مهم جداً وهو، أنه لم يقتصر الحديث في الضروريات على مقاصد الدين فقط، ولو فعل لشمل مقاصد الدنيا، ولكنه أراد أن ينص على قيام مصالح الدنيا، فالشرع والدين والإسلام يقر للناس مصالحهم الدنيوية، وأنها حق لهم، فلا فائدة من شرع يقر للرب حقوقه، ولا يقر للإنسان والناس حقوقهم ومصالحهم، وهذا المعادلة بين الدين والدنيا إذا وضحت كما هي عند الشاطبي، وعلماء المسلمين لا يبقى حاجة للعلمانية الغربية، التي جاءت تنتصر للدنيا بعد أن تَغول عليها الكهنة والحكام المتألهون باسم الدين[4]، ولذلك كان هناك تخوف من جانب فقدانها دنيوياً قبل الآخرة على أهميته.
ثم تحدث الشاطبي عن طريقة حفظ الضروريات فوجد أنها تحفظ بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعتها من جانب الوجود
الأمر الأول هو أمر إيجابي، فهو يقيم الأركان مثل التعليم والتربية الحسنة، للأبناء والمتعلمين، والتثقيف لأبناء المجتمع المسلم، فالأصل هو السعي لإيجادها في الحياة، والتعلم قد يكون تعليم لعبادات أو عادات أو معاملات، والتعليم الأخير تعليم ما هي الجنايات في الدنيا وعواقبها في الدنيا والآخرة.
ومن الأركان الضرورية ديناً: أصول العبادات، وهي راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك.
ومن الأركان الضرورية: حفظ العادات، أي ما يؤدى عادة ولكنه ضروري ولا يستغني الإنسان عنه، بل حياته متوقفة عليه، وهي راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا، كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك.
ومن الأركان الضرورية: حفظ المعاملات، وهي راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا، لكن بواسطة العادات.
ومن الأركان الضرورية: حفظ الجنايات، ويجمعها الأمر بالمعروف، أي أن دور الأمر بالمعروف دور إيجابي في حفظ الحقوق الإنسان في وضعه قانون العقوبات والجنايات حتى يكون الناس على بينة من أمرهم.
يتبع في العدد المقبل..
——————————————-
1. القانون الإسلامي وطرق تطبيقه، أبو الأعلى المودودي، الدار السعودية، جدة، 1405هـ/1985م، ص: 18. وكتاب: العقوبة في الفقه الإسلامي، الدكتور أحمد فتحي بهنسي، دار الرائد العربي، بيروت، الطبعة الثاني، 1403هـ، 1983م، ص: 8.
2. الموافقات، الشاطبي، 2/8.
3. نفس المصدر، 2/8.
4. تهافت العلمانية، الدكتور عماد الدين خليل، 18/46.
أرسل تعليق