تنظيم علاقة الإنسان بالبيئة في التصور الإسلامي
لقد نظمت الشريعة الإسلامية علاقة الإنسان بالبيئة، ووضعت أسسا تشريعية لتحديد نوعية العلاقة الرابطة بين المسلم وبين بيئته، ووضعت هياكل تنظيمية وبنى مؤسسية تؤطر النشاط البيئي للمسلم.
دور مؤسسة الدولة في حماية البيئة
تلعب الدولة الإسلامية دورا أساسيا في حماية البيئة، ويتجلى دور الدولة في سن التشريعات التي تحول دون استنزاف الموارد البيئية، ومن هذه التشريعات:
1. تحريم حرم مكة والمدينة: فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حرمي مكة والمدينة بيئة محمية أو مناطق محمية يحرم فيها التعدي على الكائنات الحية من حيوان أو نبات، حتى لا تتدهور البيئة وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها:
عن أبي هريرة قال: لما فتح الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد قال العباس: يا رسول الله إلا ذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر”[1].
وعن علي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور”[2].
وعن علي رضي الله عنه في هذه القصة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره”[3].
وعن عدي بن زيد قال: “حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريدا بريدا، لا يخبط شجره ولا يعضد، إلا ما يساق به الجمل”[4].
فهذه الأحاديث تبين المناطق المحمية التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك فحرم مكة وحرم المدينة يعتبر أقدم المناطق المحمية في العالم، وقد أكد القرآن هذه القضية، فحرم على المسلم إذا أحرم بحج أو عمرة أن يقتل صيدا “يَا أَيُّهَا الَذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ” [المائدة، 97].
وفي هذا التحريم تربية للمسلم حتى لا يقضي على هذه الكائنات ومن ثم رتب على الاعتداء عليها جزاء. إن الإسلام بتشريعاته لنظام المناطق المحمية كان أسبق في الدلالة على الآثار السلبية التي يتركها الإنسان على الطبيعة، ومن ثم فهذه التدابير الوقائية تهدف للمحافظة على البيئة، وإقامة التوازن بين الإنسان وبين الموارد الطبيعية.
وقد كان من ساسة عمر بن الخطاب ورضي الله عنه تخصيص أراضي للحماية، لمصلحة المسلمين لخيل الجهاد، ولأنعام الصدقة، والجزية.. وأجاز الرعي فيها للفقراء دون الأغنياء، ومما يروي أنه قال لعامله على الحمى: “وَيْحَكَ يَا هَنِيٌّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ النَّاسِ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ. أَدْخِلْ لِي رَبَّ الصَّرِيمَةِ [الإبل الصغيرة] وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ [الغنم القليلة]، وَدَعْنِي مِنْ نَعَمِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّ ابْنَ عَفَّانَ، وَابْنَ عَوْفٍ إِنْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ رَجَعَا إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ هَذَا الْمِسْكِينُ إِنْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ جَاءَنِي يَصِيحُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ..”[5].
وروي أن أعرابيا أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام، علام تحميها؟ فأطرق عمر، وجعل ينفخ ويفتل شاربه كعادته إذا كربه أمر، فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك عليه فقال عمر: “المال مال الله، والعباد عباد الله والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرا”[6]. فهذه الآثار تبين أن الدولة تلعب دورا رئيسيا في حماية البيئة والمحافظة عليها، ولعل هذا ما حذا ببعض الدول إلى أن تنشأ محميات وطنية وذلك لحماية البيئة والمحافظة عليها، وقد أسست أول محمية وطنية في العالم عام 1872م وهي محمية يلوستون “Yellowstone” وتوالى إنشاء المحميات حتى بلغت اليوم أكثر من 2600 محمية تقع في أكثر من 124 بلدا وتغطي أربعة ملايين كم[7]. ولم يقف التشريع الإسلامي عند حدود إنشاء المحميات، بل إنه دعا إلى المحافظة على الأجناس من الانقراض؛ لأن استئصالها ينافي الحكمة التي من أجلها خلقت، فالقرآن الكريم اعتبر هذه المخلوقات أمما مثلنا تسبح لله تبارك وتعالى: “وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء”[8]. والمثلية التي ذكرها القرآن هنا الأممية التي تعني أن هذه الأجناس أمة لها كيانها واحترامها، وحكمة الله تعالى في خلقها وتمييزها عما سواها من الأمم الأخرى.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على المقصد من الحفاظ على هذه الكائنات، فقد أخرج أبو داود عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لولا أن الكلاب أمة من الأمم، لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم”[9].
وعلق الإمام أبو سليمان الخطابي، على الحديث في كتابه معالم السنن فقال: “معناه: أنه كره إفناء أمة من الأمم، وإعدام جيل من الخلق، حتى يأتي عليه كله، فلا يبقى منه باقيه؛ لأنه ما من خلق لله تعالى إلا وفيه نوع من الحكمة، وضرب من المصلحة، يقول إذا كان الأمر على هذا، ولا سبيل إلى قتلهن كلهن، فاقتلوا شرارهن، وهي السود البهم، وأبقوا ما سواها، لتنتفعوا بها في الحراسة”[10].
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه: في أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح”[11].
وروى عن ابن عباس قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: “النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد”[12].
فالمعادلة البيئية في الإسلام تقوم على أساس التوازن بين جميع مكونات البيئة؛ لأن القضاء عليها فيه تعدي على أمم أخرى ينتفع بها الإنسان، ومما يؤكد اهتمام الدولة في الإسلام بالأحياء البيئية ما حكاه ابن كثير عن جابر بن عبد الله قال: قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولى فيها، فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتم لذلك فأرسل راكبا إلى كذا، وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء أم لا؟ قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثلاثا ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “خلق الله عز وجل ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه”[13].
فهذا الاهتمام من عمر رضي الله عنه يدل على أن من مسؤوليات الدولة مراقبة وحفظ التوازن البيئي، وذلك باتخاذ التدابير والإجراءات المناسبة التي تحول دون انقراض الأجناس البيئية.
2. الإقطاع: وهو ما يعطيه الإمام من الأراضي رقبة أو منفعة لمن ينتفع به، وهذه الوسيلة تعتبر من الوسائل التي تؤدي إلى تنمية الموارد البيئية، وعدم تعطيلها.
والإقطاع يساهم في إحياء الأراضي الموات، وقد كان من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم إقطاع الأراضي لمن يرى فيه كفاية لإصلاحها وإحيائها، وسار على نفس النهج الخلفاء الراشـــدون[14] ومن ثم فالإقطاع مرتبط بالإحياء، فمن لم يستطع إحياء هذه الأراضي نزعت منه وسلمت لمن يقوم بها، وفي هذا الإطار يروي أبو عبيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتزع من بلال المساحة التي لم يقدر على إحيائها من –العقيق– وهي من أقصى أراضي المدينة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقطعها بلال وقال له: “إن رسول الله صلى الله عليه وسم لم يقطعك لتحتجزه عن الناس وإنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي”[15].
يُتبع..
————————————————————
1. رواه أبو داود في كتاب المناسك باب (الحج) باب تحريم حرم مكة سنن أبي داود، ج: 3، ص: 212.
2. رواه أبو داود في كتاب المناسك باب في تحريم حرم المدينة، سنن أبي داود، ج: 2، ص: 216.
3. رواه أبو داود في كتاب المناسك باب في تحريم حرم المدينة، سنن أبي داود، ج: 2، ص: 217.
4. رواه أبو داود في كتاب المناسك سنن أبي داود، ج: 2، ص: 217.
5. الأموال لأبي عبيد، ص: 376.
6. الأموال لأبي عبيد، ص: 377.
7. الجغرافية الطبيعية والدراسات البيئية: عبد الله بن ناصر الوليعي، مجلة المنهل، ص: 25 العدد 538 العام 62 شوال ذو القعدة 1417هـ ، فبراير– مارس1997م.
8. السنة مصدرا للمعرفة والحضارة: يوسف القرضاوي، ص: 146 دار الشروق، الطبعة الأولى 1417 هـ 1997م.
9. أخرجه أبو داود في كتاب الصيد، سنن أبي داود، ج: 3، ص: 108.
10. معالم السنن للخطابي، ج: 4، ص: 367. .10
11. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، ج: 4، ص: 367.
12. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، ج: 4، ص: 367.
13. انظر تفسير ابن كثير، ج: 2، ص: 132.
14. انظر نماذج من هذه الإقطاعات في كتب الخراج.
15. الأموال لأبي عبيد، ص: 290.
أرسل تعليق