تأملات في حرص العلماء على وقتهم ابن الجـوزي أنموذجا (تـ 597هـ) (1/2)
لقد صدق من قال: “إن الورد يعرف من الشوك وهو بعد برعوم” فالنابغون الأفذاذ من الرجال يعرفون من غيرهم وهم بعد في طور الطفولة، والمتتبع لسيرهم لاشك سوف يجني عديدا من الفوائد، ويظفر بكثير من الخرائد، وعبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله من هؤلاء النابغين الأفذاذ.
لقد صحب ابن الجوزي رحمه الله معه من طفولته خصالا عديدة، كحرصه على وقته، وحفظه له من أن يضيع هباء، فقد كان رحمه الله شديد الوعي بقيمة الوقت، قال في صيد الخاطر: “ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة”..
وهذا الحرص على الوقت جعل ابن الجوزي رحمه الله، ينظم حياته بشكل لا يكاد يضيّع معه شيئا منه، قال: “لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما يتخلله طيبة؛ وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المَزُور وتشوق إليه، واستحوش من الوحدة، وخصوصا في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان، فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت منهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت في وحشة، لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلب، قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغا فجعلت من المستعد للقائهم: قطع الكاغد وبري الأقلام، وحزم الدفاتر؛ فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي”.
إن الذي لا مشروع له في الحياة لا يعير قيمة للوقت بخلاف الذي له مشروع؛ فإنه يرغب دائما في اتساع الوقت لكل الأعمال التي تستحيل لبنات ترفع صرح ذلك المشروع.
وابن الجوزي رحمه الله، شأنه في ذلك شأن المؤمنين الأذكياء، يسعى إلى استكمال نقائص نفسه، والارتقاء بها إلى أعلى درجات الكمال الممكنة.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “من أعمل فكره الصافي دلّه على طلب أشرف المقامات ونهاه عن الرضى بالنقص في كل حال، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيبا **** كنقص القادرين على التمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض.
ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد، رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض.
ثم يقرر ابن الجوزي بواقعية متزنة فيقول: “غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن”.
فرحمه الله على هذا الإمام رحمة واسعة.
يُتبع..
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق