بين الإعداد لإنسان الغد وإنسان اليوم
قبل عشرين سنة من الآن قال ألفن توفلر في مقدمة كتابه “تحول السلطة بين العنف والثروة والمعرفة” ما يلي: “عند وصفها لتغيرات اليوم المتسارعة، تطلق وسائل الإعلام علينا صورا خاطفة من الرسائل والدراسات الموغلة في التخصص، ويقدم المتنبئون قوائم باتجاهات لا يجمعها جامع، ولا نموذج يبين لنا الروابط التي تصل بينها، أو القوى التي يرجح أن تجعلها تنعكس، والنتيجة هي أن التغيير نفسه بات يُرى كشيء تحكمه الفوضى بل والجنون.
إن تغيرات اليوم السريعة ليست فوضوية أو عشوائية كما تكيفنا على اعتقاده.. والعناوين البارزة وغيرها مما تغمرنا به وسائل الإعلام وخلافها، لا تخفي وراءها أنماطا متميزة فحسب، بل أيضا قوى قابلة للتحديد تعمل على تشكيل هذه الأنماط، وعندما نفهم هذه الأنماط والقوى يصبح من الممكن التعامل معها استراتيجيا، وليس اعتسافا على أساس واحدة فواحدة..” [ص: 5-6].
وبعد حوالي خمس وعشرين سنة كتب توماس فريدمان في كتابه “العالم مسطح”: ما وقع خلال السنوات الماضية، هو أن استثمارات ضخمة قد وجهت نحو التكنولوجيا الرقمية، حيث إن مئات الملايين من الدولارات قد استثمرت لإرساء شبكة واسعة للاتصال عبر العالم، ومد أسلاك لهذا الغرض تحت المحيطات والبحار، وفي الآن ذاته، أضحت الحواسيب أرخص، ومن ثم أكثر انتشارا عبر العالم مع انفجار في أعداد المستعملين لها، ومحركات البحث مثل جوجل، والدعامات الرقمية لتجزئة أي عمل إلى جزيئات يمكن إنجازها في الوقت ذاته في كل من بوسطن مثلا وبنكلور وبيكين مما ييسر أمام الجميع القيام بالتنمية الاقتصادية عن بعد” [ص: 6-7].
مما يثبت أن الأمر كما قال ألفن توفلر حين نصّ على أن قوى محددة عملت على تشكيل هذه الأنماط وذكر أن فهم هذه الأنماط والقوى هو الذي يمكن من التعامل الاستراتيجي معها”.
اليوم، وبعد الوندوز «Windows» وتعميم النيت سكايب Netscape، ورقمنة العمل، وإدخال العمل في التجزيئ والتمكين من إنجازه عن بعد في مختلف بقاع العالم، وانفجار ثقافة أل إي e-culture وانتشار محركات البحث، والتمكين من الوصول إلى ما يفوق الخيال من قواعد المعطيات المكتوبة والمسموعة والبصرية عالميا وفي الزمن الحي، وانتشار الهواتف المحمولة الممكّنة من الانغراس في الشبكة من كل بقاع العالم، وقنبلة الويكيليكس، واندياح التويتر والفايسبوك وما أثاره كل ذلك في عالمنا من موجات التغيير، النفسي والمعرفي والاجتماعي كونيا، اليوم، يحق لساكنة هذا العالم ذي الطبيعة المختلفة تماما عما كان عليه قبل عقد ونصف فقط، أن تتساءل عن مدى مواكبة مناهجنا وبرامجنا التعليمية والتربوية، ومسايرة نظمنا الثقافية والاجتماعية والتدبيرية واستدماج أنماطنا العلائقية لكل ذلك؟.
يحق لساكن عالم اليوم أن يتساءل عن الهزات البراديجماتية والثورات التعريفية التي أحدثتها هذه الثورة الرقمية، كما يحق له أن يتساءل عن مصائر المحليات والهويات والحدود والخصوصيات وكيفية التعاطي مع ما يطالها من زلزلات؟.
لاشك أن جوابا ملحا سوف يطفح وسط غمرة كل هذه الكائنات الاستفهامية وهو:
إن إعداد إنسان الغد لا يمكن حتما أن يتم بالمنهجية نفسها التي تم بها إعداد إنسان اليوم.
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق