اليوسي ممثلا لثقافة عصره
كم هو رائع أن تعبر شخصية ما عن عصر بأكمله، لاسيما إذا كانت هذه الشخصية تمتاز بجمع بين السمو العلمي والفكري من جهة، والانخراط في ثقافة العصر من جهة أخرى.. ينطبق هذا الأمر-في نظري- على العلامة الحسن اليوسي الذي قال عنه محمد الصغير الإفراني في “صفوة من انتشر” أنه قد “أقبلت عليه طلبة العلم في جامع القرويين وتزاحمت على بابه الركب، ووقع له من الإقبال ما لم يعهد لغيره“.. ويبدو من خلال كتاب “المحاضرات” لليوسي حِرص الرجل على إبراز أكبر قدر ممكن من عناصر ثقافة عصره، وهو ما يتضح من خلال المقدمة التي يقول فيها: “وإني قد اتفقت لي سفرة بان بها عني الأهل شغلاً وتأنيساً، وزايلني العلم تصنيفاً وتدريساً، فأخذت أرسم في هذا المجموع بعض ما حضر في الوطاب، مما أحال فيه أحان له إرطاب، وسميته المحاضرات، ليوافق اسمه مسماه، ويتضح عند ذكره معناه، وفي المثل: “خير العلم ما حوضر به”..
وتختزل حياة اليوسي جانبا كبيرا من الواقع المغربي، فهو الإنسان الذي تمتع بوضع اعتباري مهم داخل مدينة فاس بالرغم من قدومه مما يطلق عليه اليوم “العالم القروي“، وهو الذي تمكن من امتلاك ناصية سلطة المعرفة العربية الإسلامية، وهو السياسي المتمرس، وهو مريد الزاوية الدلائية، والممثل الكبير للطريقة الناصرية.. وإن مصداقية اليوسي وتمثيليته المعبرة عن عصره هي ما جعل السوسيولوجي الفرنسي جاك بيرك يؤلف كتاب “الحسن اليوسي، مشكلات الثقافة المغربية في القرن السابع عشر“، ليتوصل فيه إلى أن ملامح الشخصية العلمية والثقافية لليوسي يمكنها أن تمدنا بعناصر تحليلية حول المميزات الاجتماعية والثقافية لمغرب القرن السابع عشر.. وهو أيضا مغرب عبد القادر الفاسي، وعبد الرحمن الفاسي، وأبو سالم العياشي، وآخرون.. ولا شك أن هذا النوع من المقاربة الأنثربولوجية ينخرط في إطار تيار فكري يرى بأن من أهم مداخل استقصاء ملامح الشخصية الثقافية لمجتمع ما هو دراسة الوضع الاعتباري للعلماء داخل محيطهم الثقافي والاجتماعي..
والمثير للانتباه أن جاك بيرك يصر على التأثر الكبير للحسن اليوسي بابن عربي الحاتمي، لافتا الانتباه بهذا الصدد إلى الاندماج، في مغرب القرن السابع عشر، بين “تيارَيْ سِيَر الأولياء الشعبية والنَظَر العالِم“، وقد ذكر الإفراني في “صفوة من انتشر” خبرا طريفا هو أن اليوسي “كان يبيت في أضرحة صلحاء مراكش”.. يقول جاك بيرك :”كان تصوف ذلك الزمان يجمع بين العلوم النقلية الأكثر تفقهًا، وبين هَبَّة ريفية..” ومسألة التأثر بابن عربي لا تصح على اليوسي فحسب، بل تستوجب توسيع دائرة التأثير، كما يشهد على ذلك السريان الواسع لمفاهيم يعود أصلها إلى تصانيف الشيخ الأكبر. وإن بحثًا مستفيضًا لكيفيات هذا الانتشار وقنواته لَيستدعي تحليل عددٍ كبير من النصوص من أجل إظهار بعض العلامات، المكتومة غالبًا، لهذا “التأثير الحاتمي”..
واليوسي أيضا نموذج لتحول مفصلي في طريقة استيعاب العلوم في عصره، ذلك أنه انتقل في مرحلة مبكرة من حياته العلمية من أسلوب الحفظ إلى التحليل والتركيب… وكانت لليوسي منهجية تعتمد على تحليل النصوص، ولم يكن يخفي ارتيابه تجاه الرواة والنسّاخ الذين كثيرا ما كانوا يحرفون النص الأصلي ويعطونه أبعادا مغايرة، وهو ما يعني اجتهاد اليوسي و ثورته على التقليد.. لذلك قال عنه عبد الحي الكتاني في “فهرس الفهارس” “هو عالم المغرب ونادرته وصاعقته في سعة الملكة، وفصاحة القلم واللسان مع الزعامة والإقدام والصدع بما يتراءى له، وكثرة التصنيف على طريق بعد العهد بمثله، وهو الكلام المرسل الخالي عن النقل إلا مالا بد منه”..
نعم تيه في سبيل العلم منذ البداية، وتميز بمقومات التركيب في اكتساب وتحصيل المعرفة.. نقلة ميزت عصر اليوسي، لكنها تلاشت تدريجيا بعده وضاعت بين ثنايا الرؤية التقليدية للعلوم التي راكمت النظرة السطحية للأشياء، فكانت النتيجة سيادة التقليد الذي ساد في جميع ميادين الحياة.. من هنا نفهم محاولة السلطان سيدي محمد بن عبد الله لإصلاح التعليم.. وما اندلعت معركة إيسلي سنة 1844 إلا والمغرب يعيش جمودا فكريا وحضاريا على عدة مستويات..
والله الموفق للخير والمعين عليه
أرسل تعليق