النوازل الاقتصادية في المذهب المالكي.. (5)
الجانب الاقتصادي للنوازل المرتبطة بالاستثمار الزراعي
ثانيا: قضايا رأس المال
وهذه النوازل تعالج المشاكل الناجمة عن توظيف رأس المال. سواء كان هذا التوظيف عن طريق الفرد نفسه، أم عن طريق المشاركة مع الغير.
وتكشف هذه النوازل عن بعض الممارسات التي كانت بالغرب الإسلامي، وهي وجه من وجوه النمط الاقتصادي الذي كان سائدا بهذه الجهة.
الجانب الاقتصادي للنوازل المرتبطة بطرق استثمار رأس المال
تعددت وسائل استثمار رأس المال، فمنها ما هو شخصي، كأن يقوم الشخص بالتجارة، ومنها ما هو مشترك كالشركة بجميع أصنافها، وهذا ما سنبينه من خلال هذه النماذج التي ستكشف عن قضايا النشاط الاقتصادي بالغرب الإسلامي.
النموذج الأول: قلة التجارة هل هو جائحة في الحوانيت وغيرها
شكلت القضايا التجارية موضوع مجموعة من النوازل[1]، ومن هذه القضايا مسألة كساد التجار، والسبب في ذلك هو ضعف دخل الأفراد في هذه الفترة.
والنازلة وقعت في عهد ابن رشد[2] أي في أواخر القرن الخامس والسادس، وهذا يعكس المستوى الاقتصادي الذي كانت تجتازه بعض مدن الأندلس والجهد الذي أصاب الناس، وتأثير ذلك على المستوى الاقتصادي للأفراد. فقد سئل ابن رشد عن المكترين للحوانيت إذا قلت التجارة لضعف الناس مثل هذا العام، هل هي جائحة يحط عنهم من الكراء بقدر ما نقصهم من التجر؟ وكيف إذا كانت الحوانيت للأحباس هل حكمها، وحكم غير المحبسة سواء أو لا؟
وقد كان جواب بن رشد أن قلة التجارة في الحوانيت المكتراة – لما أصاب الناس من ضعف الحال – ليست بجائحة يكون للمكترين لها القيام بها، سواء كانت للأحباس أم لم تكن، والحكم في ذلك سواء، وإن رأى القاضي في حوانيت الأحباس أن يحط على المكترين من الكراء لما تشكون على سبيل الاستيلاف جاز، كما يجوز للوكيل المفوض إليه أن يحط من أثمان ما باع لموكله على هذا الوجه[4].
ومما يعكس أن هذه الفترة عرفت ضعف الحال، وقلة الدخل أن أصحاب الفنادق اشتكوا من قلة الواردين للسكنى، كما قل الواردون لطحن الطعام في الأرحى المكتراة[5].
وهذه المسألة سئل عنها ابن رشد أيضا، وقد بين أن السبب الداعي لقلة الواردين في البلاد لسكنى الفنادق المكتراة المتخذة للنزول فيها قد يكون من فتنة، أو حرب حدث في الطرق، كما أن قلة الإقبال على الطحن في الأرحى المكتراة قد يكون لجهد أصاب ذلك المكان، ومن ثم اعتبر ذلك عيبا فيما اكتراه المكتري، فيكون مخيرا بين أن يتمسك بكرائه، أو يرده ويفسخه عن نفسه، فإن سكت ولم يقم حتى مضت المدة أو بعضها لزمه جميع الكراء، ولا يسقط عنه الكراء إلا لخلاء أهل ذلك الموضع حتى تبقى الرحى معطلة لا تطحن، والفنادق خالية لا تسكن، ولا يلزم المكري إذا قلت الواردة أن يحط المكتري من كرائه بقدر ما نقص من الواردة بغير رضاه، وإنما يوجب ذلك المكتري التخيير[6].
فهذه النوازل تعكس مضمونا اقتصاديا يتجسد في ضعف التجارة، وقلة الرواج الاقتصادي بالأندلس كما تحدد العوامل المؤثرة في ذلك[7].
يتبع في العدد المقبل..
—————————————————————————-
1. أورد صاحب المعيار كثيرا من نوازل التجارة، مثل: شريكان في تجارة على السواء، أراد أحدهما زيادة في المال وأسلف الآخر ما يساويه ج: 8، ص: 179، أو قضية فساد البضاعة في السفينة بسبب الماء، ج: 8، ص: 308، أو مسالة حكم السفينة للتجارة، ج: 8، ص: 311 وغيرها من القضايا.
2. ابن رشد القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي من أعلام الأندلس له مؤلفات عدة منها: البيان والتحصيل والمقدمات، توفي سنة 520هـ، الديباج، ص: 278، شجرة النور الزكية، محمد مخلوف ص: 129، دار الفكر ط د ت.
3. المعيار، ج: 8، ص: 288.
4. المعيار، ج: 8، ص: 288.
5. المعيار، ج: 8، ص: 287.
6. المعيار، ج: 8، ص: 288.
7. يؤكد هذا أن الحالة الاقتصادية بالأندلس كانت تعرف الركود نتيجة افتراق الأمة، وتغلب الدولة العامرية على الخلافة الأموية، وظهور فتنة البربر في الأندلس التي أهلكت الحرث والنسل.
انظر في ذلك الفكر السامي للحجوي، ج: 3، ص: 164. المكتبة العلمية بالمدينة، الطبعة الأولى 1396.
أرسل تعليق