المناظرات.. (5)
مناظرة الخروبي والبسيثني والهبطي وما عقب به اليوسي عليها
“.. وقول المعترض إن في كلام الخروبي تناقضا حيث أتى بكلام ذلك العالم فإن من يستحيل كونه مفهومه كلي إلى آخره يقال لهذا المعترض من يستحيل كونه مفهومه كلي وله مصدوق جزئي وهو معبود الكافر بحسب وصفه المدَّعى باطلا فإن كونه مستحقا لأن يعبد مستحيل وهكذا كلام الخروبي له مفهوم كلي ومصدوق جزئي فلم غلَّبْتَ في كلام هذا العالم رعاية المفهوم حتى صحَّ كلامه وفي كلام الخروبي رعاية المصدوق حتى بطل كلامه؟” ثم قال:
“وأما كلام اليسيثني فموقع الاعتراض منه قوله ليس فيما أدعاه، يعني الخروبي، كبير أدب بل الأدب أن يكون النفي شاملا لكل اله يُقدَّر سوى الحق سبحانه الخ فالظاهر منه أنه يقول ينبغي للخروبي أن لا يقتصر بالنفي على ما ادَّعاه المشركون من الآلهة الباطلة بل يجعل النفي مُتَوجِّها إليها وإلى غيرها من كل ما يُقدَّر سوى الله تعالى، ومَبنى الاعتراض عليه أنه أراد أن يضم ما وقع عند الخروبي من الجزئيات الخارجية إلى كل ما يقدر ليعم النفي فيقع الاعتراض من جهتين إحداهما أن تلك الجزئيات الخارجية موجودة فلا يصح نفيها. الثانية أن في هذا تهافُتا لأنه قال أولا في اعتراضه على الخروبي أن الجزئيات لا يصح أن تكون مدخولة للا؛ لأن مدخول لا إنما يكون جنسا كليا فكيف استباح هنا أن تدخل هي وغيرها؟ ولا يُصَيِّرها انضمام غيرها إليها كليةً بعد إذ كانت جزئية. والجواب عن اليسيثني أنه ما أراد إدخال المعبودات الجزئية في النفي من حيث هي كذلك وإنما مراده أن الأدب هو الخروج عن هذا المسلك وترك الالتفات إلى ذوات المعبودات الخارجية وذلك بأن يُجعَل النفي مُتَسَلِّطاً على كل إله يُقدَّر في الذهن مستحقا للعبادة غير مولانا جل وعزَّ كما صرَّح به من غير التفاتٍ إلى ما أدُّعِي في الخارج ولم يُدَّع. ثم قال:
وأما كلام الهبطي فموقع الاعتراض منه هو قوله إن معبودات الكفار لا دخل لها في النفي، فإن القول بذلك يقتضي أنها مُسلَّمة متروكة لم يُتعرَّض لا بطالها وإن الكفار لم يقع الردُّ عليهم فهم مُقرُّون على عبادتها واعتقاد ِأُلوهيتها مع أن مدلول هذه الكلمة من أبطال كل إله سوى الله تعالى، وإثبات الألوهية لله تعالى مما علم من الدين ضرورة، ومحمل كلامه عندنا وجهان.
أحدهما: أنها من حيثُ ذواتُها أي الحجر والشجر والفلك والنار وغير ذلك لا تُنفى وهذا لا إشكال فيه ويوافق الخصوم عليه إذ لا إشكال أن الأجرام وكدا الأعراض لا دخل لها في مستحق العبادة المنفي في كلمة الإخلاص.
والثاني: أنها من حيث وصفُها أي كونها آلهة باطلة لا تستحق أن تُعبد ولا أن يُتقرَّب إليها ولا بها ولا تنفى أيضا. وهذا أيضا صحيح لا شك فيه؛ لأن هذا الوصف أعني كونها آلهة باطلة لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع موجودٌ لها قائم بها كما هو موجود في أذهان الموحدين العارفين فلم يصح تسلُّط النفي عليه من جهتين.
إحداهما: أنه موجود وكما لا يصح نفي الذوات الموجودة كذات الصنم لا يصح نفي وصفه الموجود له ككونه معبودا بغير حق وفتنة ومضلَّة ووبالا..
الثانية: أن المنفي في كلمة الإخلاص هو المثبت بإلَّ لما بعدها فلو كان المنفي هو الألوهيةُ الباطلة الموجودة في الخارج لكان ذلك هو المثبَت لله تعالى إنما هو الألوهية الحقِّيَّةُ، عُلم أنها هي المنفية عن غيره لا الباطلة..
عن كتاب النبوغ المغربي في الأدب العربي لمؤلفه العلامة عبد الله كنون الجزء الأول الطبعة الثانية دار الثقافة ص: 371-374.
أرسل تعليق