المناظرات.. (4)
مناظرة الخروبي والبسيثني والهبطي وما عقب به اليوسي عليها
إن كل لفظ واقع على كلِّي كالإنسان والفرس والشجر ونحو ذلك لابد له من اعتبارين أحدهما مفهومه وهو ما يتصوَّر منه كالحيوان الناطق من الإنسان والحيوان الصاهل من الفرس مثلا الثاني مَصْدُوقُه وهو ما يقع عليه من الأفراد باعتبار وجود معناه فيه كزيد وعمرو وزينبَ وهندٍ للإنسان؛ فأما الأول وهو المفهوم فهو كلي أبدا في نحو هذا وهو مُتَصوَّر في الذهن سواء كان له وجود في الخارج أم لا. وأما الثاني وهو المصدوق فقد يوجد للكلي منه واحد، وقد يُوجد كثير وقد لا يوجد شيء أصلا كالشريك وبَحْرٍ من زِئبِق.
إذا تقرَّر هذا فنقول قول الخروبي ما ادعاه المشركون يحتمل أن يريد به مصدُوقه الخارجي كالشجر والحجر وهذا موضع الاعتراض ويحتمل أن يريد به مفهومه وهو مفهوم الشريك الكلي أو الشركاء فإن المشركين على اختلاف نِحلهم وتبايُن مِلَلِهم من وثني وفلكي وثَنوي ومُثَلِّث وغير هؤلاء متفقون على أمر واحد هو القَدرُ المشترك بينهم وهو تجويز أن يكون مع الله جلَّ اسمه وتعالَتْ كلِمتُه من يُشارِكه في استحقاق العبادة ثم لم يقتصروا على هذا التجويز بل حكموا بوجود ذلك غير أنهم اختلفوا بعد ذلك فمنهم من يُثْبِتُ شريكا واحدا هو فاعل الشر كالثَّنوِي، ومنهم من يُثْبِتُ اثنين كالنَّصراني المُثلَّث. وهؤلاء غُلاةُ المشركين القائلون بالشَّرِكة في الألوهية الحقيقة. ومنهم من لا تنضبط حاله بل يثبت ما اتفق له مما قام له عليه داع إلى الشركة وباعث إلى العبادة كغيرهم من الوثنيين والفلكيين ونحوهم فقد اجتمعوا على إثبات الشريك المستحق العبادة في الجملة. وهذا مفهوم كلي من غير التفات إلى مَصْدوقَاته الخارجية من زعمهم. ولا شك أن هذا المفهوم الكلي قد ادعوه كلهم ولا إشكال أنه هو المنفي في الكلمة المشرفة فيجب أن يكون هو المعنى في قول ما ادعاه المشركون فلا يبقى على الخروبي اعتراض لا من قبل اليسيثني؛ لأن هذا كلي لا جزئي ولا من قبل الهبطي؛ لأن هذا منفي ليس بموجود ولا يصح وجوده..
يتبع في العدد المقبل..
عن كتاب النبوغ المغربي في الأدب العربي لمؤلفه العلامة عبد الله كنون الجزء الأول الطبعة الثانية دار الثقافة ص: 369-371.
أرسل تعليق