المعرفة بين الارتقاء بأدوات الإنسان والارتقاء بخصائصه (1)
تعد المعرفة من أهم مميزات الإنسان عن مخلوقات الله الأخرى، ومن أهم المميزات التي يرتقي بها الناس درجات العلى بعضهم أعلى من بعض، بل وأصبحت المعرفة في العصر الحديث من أهم مميزات الدول، حتى أن الدول العظمى في تنافس معرفي مستمر، والسباق بينهم على المكتشفات المعرفية والعلمية في أكثر من حرب فعلية، ولذا تلجأ الدول إلى التجسس العلمي مثل التجسس الأمني، إن لم يكن أكثر منه.
وقد ذكرنا في الفصل السابق أن العلم نوعين هما العلم الدنيوي والعلم الديني، وبتعبير آخر نقول إن للعلم مصدرين هما المصدر الدنيوي والمصدر الديني، وقد اختص المصدر الدنيوي في بحث كل ما هو مدرك بالحواس أولاً، ثم مدرك بالعقل ثانياً، عن طريق المشاهدة بالحواس والتجربة والمختبر، ثم التوصل إلى النتائج العقلية بالاستنتاج والاستقراء والاستقصاء، ولذا تركز العلم الدنيوي بالحياة الدنيا وظواهرها.
وقد وصف القرآن بعض أهله بأنهم حصروا أنفسهم بالعلوم الدنيوية فقال تعالى: “وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الاَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِأيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ” [الروم، 5-9].
هذه الآيات الكريمة تصف نوعاً من الناس لا يعلمون إلا ظواهر الحياة الدنيا، ولذلك حكم عليهم القرآن في الآية التي قبلها بأنهم من أكثر الناس الذين لا يعلمون، وفي ذلك كشف لحقيقتين.
الحقيقة الأولى: أن العلم لا يؤخذ من الأكثرية فقط، فقد تكون الأكثرية غير عالمة ولذلك قال الله “وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ“.
الحقيقة الثانية: أن العلم غير محصور بعلم الظاهر فقط، وأن هناك علماً آخر يتوصل إليه بالتفكير في حقائق الخلق، مثل التفكير في حقائق خلق السموات والأرض وما بينهما، وأنها ما خلقت إلا بالحق ومن الحق سبحانه وتعالى، أي أن التفكير بحقائق الأشياء يهدي إلى الإقرار بالحق الخالق، وأنه هو الله تعالى رب العالمين، فالعلم بالخالق طريقه التفكير بحقائق الأشياء وقوانينها وغايتها، للتوصل إلى أن الله تعالى خلقها رحمة بالإنسان ومسخرة له، أي لحفظ الإنسان وتمكينه والعناية به..
يتبع في العدد المقبل..
أرسل تعليق