المدرسة الطبية المغربية في عهد المنصور الذهبي.. (3)
في دراسته حول تاريخ الطب بالمغرب يصرح مؤرخ الطب الفرنسي رونو “أن المغرب في العهد السعدي عرف في بدايته ركودا في ميدان العلوم الطبيعية”، وهو على الحقيقة ركود موروث عن الفترات السابقة -منذ أواخر العصر المريني وخلال العصر الوطاسي- وعرفت هذه الحقبة انحسارا للعلم والمعارف بفعل الفوضى السياسية والاجتماعية التي عرفتها البلاد؛ ويستثني رونو في دراسته أسماء عالِمين برزا خلال العصر السعدي هما ابن عزوز عبد الله المراكشي المعروف بـ “بَلّا”، وهو مؤلف كتاب “ذهاب الكسوف في الطب”، وأبو القاسم الوزير الغساني صاحب كتاب “حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار”.. ويبدو أن أحمد المنصور شجع نشر كتاب الغساني في “إطار مشروع إصلاحي” لقطاع الطب والصيدلة بالمغرب فيما يمكن اعتباره تنظيما وتقعيدا لقطاع عرف ضعفا كبيرا في مراحل اللا استقرار السياسي التي عرفها المغرب في أواخر الحكم المريني وخلال العصر الوطاسي..
لكن لائحة النوابغ في مجال الطب خلال حكم السعديين يتجاوز في الحقيقة ما ذكره المؤرخ رونو، وعليه سنستمر في هذه الحلقة بإبراز جوانب من المدرسة الطبية خلال أوج ازدهار دولة الشرفاء السعديين ونقول أنه بالإضافة إلى الغساني، وبَلّا، والمرغيتي نبغ أطباء آخرون؛ نذكر منهم أبا علي الحسن بن أحمد المسفيوي المراكشي الأديب الطبيب المزداد عام 968 هـ/ 1560م. أخذ علم الطب على شيخه أبي القاسم الوزير الغساني، وأخذ المنطق والحساب والهندسة على الشيخ أحمد القاضي (أنظر عبد الله كَنون جريدة الميثاق: عدد 79)، وكان المسفيوي على إلمام ببعض اللغات الأجنبية، ولذلك ذكر المقري في “النفح” أنه قام بتعريب بعض الكتب بإذن من السلطان أحمد المنصور الذهبي. غير أنه من المؤسف جداً أن تضيع آثار كثير من علمائنا ومنهم المسفيوي هذا..
ومن العصر السعدي نذكر طبيبا آخر هو أبو محمد سقين السفياني القصري، درس ألفية ابن سينا في الطب، وعنه أخذها الناس عام 956 هـ/ 1549 م، ومثله الفقيه عبد الواحد بن عاشر المتوفى عام 1040 هـ/ 1630 م وكانت له معرفة بالطب. وأحمد بن عبد الحميد المعروف بالمريد المراكشي المتوفى عام 1048 هـ/ 1638 كان إماماً في جميع الفنون حكيماً ماهراً في الطب وحسين الشوشاوي السوسي، وهو من أهل القرن التاسع (الطب والأطباء لعبد العزيز بن عبد الله، ص. 57 وما بعدها..) وابن عزوز المراكشي المعروف ببَلّا الذي ألف كتابه “ذهاب الكسوف في طب العيون”.
وأريد أن أشير -تأكيدا لما كنت قلته حول ازدهار قطاع الطب والصيدلة خلال العصر السعدي- إلى ما يمكن تسميته “بالمجمع الطبي” الذي يشرف على تدبير هذا القطاع الحيوي..
لقد انبرى هؤلاء الأفذاذ إلى مواجهة الأمراض التي عرفها عصرهم جامعين بين عمق علمي كبير وتفان في البحث التجريبي وتقدير للإنسان والسعي إلى إسعاده..
وقد أشار الحسن الوزان (ليون الإفريقي) في كتابه “وصف إفريقيا” إلى الأمراض التي كانت منتشرة في هذا العصر (القرن 16م) منها الطاعون والصرع ومرض الزهري (النوار)، وداء المفاصل والجرب والقرع، وتضخم الغدة الدرقية، وداء الجذام الوراثي.. (أنظر المرحوم عبد العزيز بنعبد الله، الطب والأطباء بالمغرب، ص: 62)..
لقد نبغ طبيب كبير خلال هذا العصر هو أبو القاسم بن أحمد بن عيسى المعروف بالغول الفشتالي نسبة إلى فشتالة القبيلة المعروفة بشمال المغرب، والتي أنجبت عدداً من الرجال المشهورين؛ وقد ترجم العلامة المرحوم سيدي عبد الله كنون لأبي القاسم الغول الفشتالي في جريدة الميثاق (العددان: 227 و 228) وقال أن أبا القاسم أحمد الغول الفشتالي كان فقيهاً مشاركاً في جملة من العلوم، مبرزاً في الطب متفرداً فيه وفي الهندسة والحساب..”.
ما تنبغي الإشارة إليه حول مرحلة التحصيل العلمي عند الأستاذ أبي القاسم الغول الفشتالي أنه تلميذ العلامة الكبير أبي المحاسن يوسف الفاسي الذي كان إضافة إلى دوره الفكري والتربوي رجل سياسة ومجتمع، كما كان له دور بارز في الإصلاح السياسي، ومن أمثلة ذلك الدور الذي قام به بمعية تلاميذه في معركة وادي المخازن إضافة إلى الدور العلمي والإصلاحي الذي كان يقوم به؛ وكان أبو المحاسن القصري الفاسي واحدا من خيرة علماء المغرب المشهود لهم بالعلم والصلاح، ويعتبر أستاذا لعلماء أفذاذ، ويكفي أن نعرف أنه أستاذ العالم الكبير والطبيب الماهر ورجل الهندسة المتفرد أبي القاسم أحمد الغول الفشتالي صاحب أرجوزة الفشتالي في الطب، وهو العالم الطبيب الذي قال عنه العلامة عبد الله كنون في ترجمته له بـ “الطبيب الذي رفع من قيمة العصر الذي عاش فيه”..
يقول عبد الصمد العشاب في مقاله “مساهمة علماء المغرب في ميدان الطب والتطبيب” (مجلة التاريخ العربي عدد: 15): “ألف أبو القاسم الغول الفشتالي في الهندسة والحساب كتباً منها “منظومة المخمس الخالي الوسط”، وشرح نصوص في كيفية قسم الماء لقواديس الديار. أما في علم الطب، فنشير إلى ما ألفه فيه، منها “منظومة في الجمع بين الأحاديث النبوية وكلام الأطباء والحكماء في الطواعين والأوباء”، وكتاب “حافظ المزاج ولافظ الأمشاج بالعلاج” (مخطوط الخزانة الوطنية رقم د-1602) وهذا الكتاب عبارة عن منظومة رجزية تقع في نحو خمسمائة وألف بيت، مرتب على أربعة وعشرين باباً، فيها الحديث عن وجع الرأس والشقيقة والزكام والقروعة وجرب الرأس وداء الثعلب، وهو الذي نسميه بـ “التونية”، وختم بالباب الرابع والعشرين الذي تحدث فيه عن أنواع الأشربة والمربيات والأدهان والأوزان والمقادير.
ذكر العلامة المرحوم سيدي محمد المنوني في كتابه “منتخبات من نوادر المخطوطات” (منشورات الخزانة الحسنية، 2004 ص: 193) أرجوزة الفشتالي في الطب ضمن مخطوطات الخزانة الحسنية (رقم 3620): فيها وصف لعدد من الأمراض ووسائل علاجها كما تتعرض لحفظ الصحة والتجميل مطلعها:
نحمدك اللهـــم ذا الآلاء منزل الــــــدواء للـــــداء
وآخرها:
وصلــــوات الظــــاهر التــــواب علـى الرسول الطاهــر الأواب
محمــد بـــدر الهــدى والأهـل وصحبـــه شهب ظلام الجهـل
يقول أبو القاسم الغول الفشتالي في أرجوزته:
وبعــــد؛ فاعلــــم أن علــــم الطـب عـلـــــم شريـــف للخبيــــر الطيـب
لأنــــــــه مـنـــعـــــش الأبـــــــــدان للعـــــون فــــــي عبـــــادة الديـــان
فصغــــت فيــــــــه درراً يتيــمـــــــة لـــــــــم يحـــوهــــا طالبهــا بقيمـه
أدويـــــــــــة وجودهــــــا معـــــروف يدركهــــــا الشريـــف والمشــــروف
وكلـــــهـــا فـــي قطرنـــــا ميســـر إلا يسيــــــــــراً أصلــــــــــه ييســــر
ويمكن أن نلمس في “أرجوزة الفشتالي” تأثرا بأرجوزة ابن سينا في الطب، التي اعتبرت والحق يقال مرجعا لكثير من الأطباء في الغرب والعالم الإسلامي، بل يمكن اعتبارها رائدة في هذا الباب. وقد قام المستعرب الإيطالي Gérard de Crémone (1114- 1187م) بترجمة أرجوزة ابن سينا في الطب، كما ترجم كتاب “القانون في الطب” أيضا (أنظر جميلة زيا، تأثير ابن سينا في الغرب، مجلة طهران عدد 48، 2009، بالفرنسية)، وقد أبرز العلامة محمد المنوني أثر كتب ابن سينا في طب الغرب الإسلامي في دراسته “دَوْرَ اثنين من مُؤلفات ابن سينا في تطعيم الدّراسات الطبيّة بمغرب العَصْر الوَسيط (مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العددان 6/5- السنة الثانية – حزيران “يونيو” 1982)..
وقد أثار انتباهي قول الفشتالي في الأرجوزة:
أدويــــــة وجودهـــا معــروف يدركهـا الشريف والمشروف
وكلهــــا فــي قطرنــا ميسر إلا يسيـــــراً أصلــــــه ييسـر
وهو ما يمكن أن نستشف منه عنصران حاسمان في ممارسة الطب فوق قواعد العلم والمنهج وهما: التيسير، بحيث يشترك في علم الطب الشريف والمشروف، والكل راجع إلى الهمة والتحصيل وسلامة المنهج؛ العنصر الثاني هو أن كل الأدوية ميسرة في القطر، إلا يسيرا أصله ييسر، بمعنى أن طبيعة المغرب المتنوعة خزان طبيعي للأدوية والعقاقير والفوائد العلاجية، يكفي أن تُعرف لتدرس لاستخلاص فوائدها، والحق يقال أن هذه الفكرة المحورية في أرجوزة الفشتالي تكفي لحل كثير من معضلات الطب ببلادنا، فلا يعقل أن تضيع الثروات النباتية دون القدرة على الاستفادة منها لنفع الناس..
رحم الله هؤلاء العظماء وجازاهم عن المغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه…
أرسل تعليق