المدخل إلى”علم الحديث بالمغرب القضايا والأعلام”2/2
لقد كان مما قررته في الجزء الأول من هذا المدخل من كون الحضارة الإسلامية نتاجا مشتركا بين أجناس المسلمين، وأن عروبتها إنما هي عروبة منشأ ولسان، لا عروبة اختصاص وعرق، كان ذلك مقدمة أردت أن أنتج منها: كون هذه الحضارة امتزج فيها كل إبداع امتزاجا بديعا، لا يحس فيه بتنافر، ولا يشعر فيه باستكراه. لكن رغم هذا الانسجام الذي كاد يذيب الخصائص المحلية لأمم الإسلام، فإن من كانت بعينه دربة النظر، ولبصيرته نور الميز، يدرك مصادر أجزاء هذا النتاج الموحد، ويقتدر على إرجاع كل جزء إلى أصله الذي منه نبع، ومصدره الذي منه خرج.
وإذا كان العطاء الحضاري للأمم يتنوع إلى ما كان منه إنتاجا للأشياء: إبداعا أو تطويرا، أو هما معا، وما كان منه كشفا علميا، أو اختراعا معرفيا، أو عملا ثقافيا، فإن بصمات الأمم المسهمة في حضارة واحدة مشتركة أوضح في الأشياء منها في المعارف. وذلك أن الحضارة الإسلامية أبدعت نمطا إسلاميا في المعمار، يضاف إلى الإسلام إذا نعت؛ إذ المنشئات الإسلامية على امتداد العالم من مساجد، وربط، ومساكن، وقلاع، وحصون، وأسوار مطبوعة جميعها بطابع مميز، يقال فيها عند نعتها: هذه عمارة إسلامية، بل إن هذه الخاصية لا تحملها الأبنية المفردة فقط، بل تنصبغ بها التهيئة العمرانية للمدن؛ فالأحياء وأزقتها، والأسواق وحوانيتها، والساحات ومرافقها، والحرفيون ومناطقهم، كل ذلك موسوم بسمة العمارة الإسلامية المتميزة. إلا أن صفة “العمارة الإسلامية” التي تحملها تلك الأبنية لا تحجب خصائصها المعمارية المحلية، فإن العمائر المغربية والأندلسية[1] ، والمصرية، والشامية، والتركية، والفارسية، التي أنشئت بعد دخول الإسلام إلى تلك البلدان، توصف بأنها عمائر إسلامية، ومع ذلك فإن لها سمة خاصة، منبثقة من خصائص القومية التي أنشأتها، والمجال الذي نشأت فيه.
وعليه، فإن العمارة الإسلامية المغربية ذات خصائص لا تخطئها العين. وذلك في شكل صوامع المساجد، وهندسة قباب جميع الأبنية وشرفاتها، وأبوابها وطاقاتها، ونحو ما ذكر مما هو معلوم، وكذلك عمارة أهل الشام، ومصر، وفارس، والأتراك وغيرهم من أمم الإسلام لها نمط خاص ظاهر ليس به خفاء.
هذا ما يتعلق بشكل البناء، وأما ما فيه بالداخل من الزليج وأشكاله، والخشب ونقوشه، والصفر وتزاويقه، والرخام وتقاطيعه، والزجاج وتقاسيمه، والجبص وصنائعه، فإن الأمر في ذلك أوضح، والشأن أجلى؛ إذ إن عباءة الفن الإسلامي [2] تتسع لكل ما ذكر على امتداد الرقعة التي تسكنها أمم المسلمين من العالم، مع ذلك فإن السمات الخاصة بالقوميات ظاهرة، وما قيل في البناء يقال نظيره في الفرش، والأثاث، والثياب وغيرها.
وإن جمع المنتج الحضاري المادي المتعدد المصدر، بين الاندماج في عموم الحضارة الإسلامية، وبين المحافظة على خصوص السمة المحلية للأعراق الإسلامية التي أسهمت به في هذه الحضارة، أمر لا أحسب وقوع الاعتراض عليه، لمكان إدراكه بالمشاهدة التي توجب العلم لمن حصلت له. والمشاهد لا يماحك فيه إلا عصبي أو غبي.
وسأحاول في المقال المقبل -إن شاء الله تعالى- الحديث عن إمكان وجود بعض السمات المحلية في العلوم، كما وجد نظير ذلك في الصنائع.
———
1. ينظر في المعمار الأندلسي، مانويل جومبث مورينو، كتاب: الفن الإسلامي في إسبانيا، ترجمة: لطفي عبد البديع والسيد محمود عبد العزيز سالم، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977.
2. ينظر في الفن الزخرفي الإسلامي، زكي محمد حسن، كتاب: أطلس الفنون الزخرفية والتصاوير الإسلامية.
-
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
إن الذين تحدثوا عن قضية "العمران" في الثقافة والحضارة الإسلاميتين أكدوا على جوهرية هذه القضية في المنهج العام الإسلامي؛ هذا المنهج الذي أتى لبناء الإنسان، وإقامة العمائر الروحية والعقدية والمعاملاتية والجمالية داخل نفسه وعقله كقناعة وإيمان، قبل إقامتها على الأرض كحضارة وعمران…
وكلما نجح هذا الإنسان في استيعاب حقائق الثقافة التي ينتمي إليها، وتشرب علما ومعرفة وإيمانا مقاصدها الكلية، ومناهج تنزيلها، إلا ونجح تبعا لذلك في بناء قناعاته على الأرض التي أمر بعمارتها وفق مهمة الاستخلاف، فتسري روح تصوراته وما يؤمن به في كل نتاجاته وإبداعاته علما وفكرا وحضارة وعمرانا وفنا…
وهذا ما يكسب كل ثقافة وحضارة تميزها وسمتها الخاصة وبعدها الجمالي الرائع.
أستاذي الفاضل شكرا لكم على هذا المدخل المنهجي الذي اخترتموه للحديث عن موضوعكم.
.
التعليقات