المحبة النابضة بالحياة المعبرة عن جمال النفس البشرية
لقد أحببت إنسانية الإنسان، وسأظل أحبها حتى نهاية الدنيا؛ لأنها أقرب إلي من روحي، وسأسخر قلمي لمحبة الناس حتى توافيني منيتي، وسأخلدها في كتاباتي لتعيش أبدا في قلوب الناس أجمعين، رغم اختلاف المقاييس والمعايير المتباينة، ولو سألتني عن سر هذه المحبة لقلت لك على الفور أنا نفسي لا أدري، فمحبة الإنسانية ملكت علي مشاعري؛ لأن هناك أسماء لرجال ونساء علموني كيف أحب، ومتى أتألم، وعلموني أيضا أن أسعد لحظاتي هي تلك التي أقضيها في الحديث إلى الناس حلوة بسيطة بلا تزييف ولا تصنع، يشعر فيها الآخرون بالحياة وحيويتها، وخير أوقاتي تلك التي أعرف كيف أنقل انفعالاتي الجميلة السعيدة التي أحس بها إلى نفوس هؤلاء الذين يعيشون حولي.
والإنسان المحب هو ذلك الذي يعيش حياته ولا يتبرم بها، إنه ذلك الذي لا يقف متفرجا على ما يدور حوله، بل يشعر بالناس من حوله ويعيش معهم آلامهم وأفراحهم، فهو منهم وهم منه، إنه الذي لا يكتفي بحل مشاكله ومشاكل أسرته فحسب، بل ويشترك في حل كل مشكلة لكل قريب او بعيد عنه كلما طلب إليه ذلك، إنه ذلك الذي يرفض أن يلقي بما يفيض من غذاء في وعاء القاذورات لأنه يعرف أن هناك أفواها جائعة تبحث عن لقمة تملأ بها جوفها، فهو يحسن إلى الفقير، ويساعد المحتاج، ويفعل ذلك دون أن يدع أحدا يحس بما قدمته يداه.
إنه الشخص الذي لا يضيع وسط الزحام، ولكن ليس معنى هذا أن يحاول أن يجعل من نفسه نجما في المجتمع، فيتسابق للوصول إلى الأضواء ويقف تحتها ليرى الناس شياكته وأناقة ثيابه ثم يجلس ليفاخر بسجاياه ومحاسنه، ولكنه ذلك الذي يتحدث في هدوء وبساطة وثقة بالنفس وبما منحه الله عز وجل من مواهب، فيحس المرء وهو يستمع إليه بعمق الفكر وسهولة التعبير في غلاف من الإيمان بوحدة الإنسانية جميل، تلفه ابتسامة مشرقة تنم عما تحويه هذه النفس الإنسانية من صفاء وشعور بالأمن والرضا، وهو الذي ترتاح البشرية إلى صحبته فلا تشعر بلذة الحياة إلا معه، فإذا ابتعدت عنه أو افترقت عنه لم تعد تشعر بطعم للحياة، أو ترى فيها شيئا مما يراه غيره.
والإنسان الحق صانع الذكريات، وباني الصداقات فهو وحده الذي يستطيع أن يجعل الإنسانية تعيش حياتها كما فعل نبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه بهذا الوصف الرائع ويقول سبحانه: “وما أرسالناك إلا رحمة للعالمين” [الاَنبياء، 106]، فهو الذي يعطي من نفسه وروحه للعمل الذي يؤديه، وهو يجد السعادة أينما كان وحيثما حل طالما أنه قريب من هؤلاء الذين يحبهم ويحبونه، بل وما أكثر اللحظات التي يحن فيها إلى أخيه الإنسان في المكان الذي شهد قصة كفاحهما معا من أجل حياة أفضل.
ثم هو الشخص الذي يتميز بقدرة على اكتشاف مواهب الناس، هو ذاك الذي يدل الناس على الشخص الذي يتمتع بقدر لا بأس به من الذكاء، ولكن خجله الشديد يحول بينه وبين استخدامه لذكائه، فيوقد بيده فتيل القدرة أو قد يكتشف أنه موهبة ضائعة في ذلك العمل الذي قضى فيه بعض سنوات عمره، فيساعده ويشجعه على تغيير عمله، رغم ما يعترض هذه الخطوة من معوقات وعقبات، فإيمانه بموهبته، ثم شعوره هو بوجود شخص آخر يؤمن به، كفيلان بتغيير مجرى حياته ومستقبله كله لصالح الإنسانية ثم هو الشخص الذي يفرض شخصيته كمستمع أكثر منه محدث، إذ لا شيء في هذا الوجود يريح الناس ويملأ نفوسهم بالثقة والاطمئنان، أكثر من شعورهم؛ لأن هناك من يستمع إليهم بإنصات ويهتم بمشاكلهم، وهو الذي يستطيع أن يشعر جليسه ومحدثه بأنه يفكر بذكاء أكثر، وعمق أكبر، فيساعده في التعبير عن نفسه وتعاونه في بلورة أفكاره دون أن يحس بتأثيره عليه .
مثل هذا الإنسان يعطي أكثر مما يأخذ ويبني جسرا يصل دائما بين تفكيره وتفكير ألآخرين، الذي يقوم عقله دائما بوظيفة المضيف لكل رأي ولكل فكرة جديدة تطرح أمامه، الذي يفتح قلبه لأفراح الإنسانية وأحزانها، مثل هذه الشخصية الذي يشعر المرء في وجوده أنه أكبر من نفسه ومن الحياة نفسها، إنه قبس من أنوار ربانية قال تعالى: “نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الاَمثال للناس والله بكل شيء عليم” [النور، 35].
مثل هذا الإنسان لن ينساه التاريخ أبدا وسيظل في طليعة القوم كما هو الشأن لشخصية الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه الذي قال فيه الحسن بن علي الوشاء: “أدركت في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة تسعمائة شخص كل يقول حدثني جعفر بن محمد هذا حفيد الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه المسمى جعفر، والملقب بالصادق” رجل رحب أفق التفكير بعيد أغوار العقل، ملم كل الإلمام بعلوم عصره، تميز في العلم، والفكر والتوجيه السليم، والقيادة الحكيمة، مدرسة انعقدت علاقاتها في المسجد الجامع مشتملة على طلاب من أقطار شتى وافدين إلى الجامعة الكبرى للتزود بالعلم الغزير والمعرفة الواسعة، من خلاله نعلم أن رجلا هو مصدر التثقيف لتسعمائة مدرسة، فإننا ندرك ما كان عليه الرجل من الإحاطة والشمول والحنكة يقول الشيخ الأزهري الإمام أبو زهرة: “ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم في أمر كما أجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه، فأئمة السنة الذين عاصروه تلقوا عنه وأخذوا، أخذ عنه مالك وأخذ عنه طبقة مالك كسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وغيرهم كثير، وأخذ عنه أبو حنيفة مع تقاربهما في السن واعتبره أعلم الناس لأنه أعلم الناس باختلاف الناس“.
والإنسان المحب هو ذلك العاقل بصفات ذاتية تؤهل الآخرين للإلزام والالتزام كل بما له وما عليه، يوصي الناس بالتقوى وأداء الأمانة لمن ائتمنه، وحسن الصحبة لمن يصحبونه، وأن يكون داعية للناس صامتا يعمل بما يأمره الله من العمل طاعة لله، ويعامل الناس بالصدق والعدل ويؤدي الأمانة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يطلع الناس منه إلا على خير، فإذا رأوا ما هو عليه علموا فضل ما عنده فيسارعون إليه، هو ذاك الذي يحث على الجدية في الحياة والكفاح من أجل العيش الكريم، واتخاذ مبدإ إنساني ينفذ بحذافيره على نطاق عالمي واسع سواء بين الأفراد والجماعات لتنجو البشرية من كثير من الشرور التي لا يبعثها إلا التعصب الأعمى الذي يقول: “إن شرار قومي خير من خيار غيرهم“.
والإنسان هو ذاك المربي الذي يخلق مجتمعات إنسانية أصيلة الأخلاق، متماسكة الجوانب تكون زينا لأمة الإسلام ولا تكون شينا عليها لأن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى عليه أثرها حتى يستحق قول الشاعر:
مثل النجوم على مضمار أولنا إذا تغــــيب نجـــم آخر طــلعا
وأيا كان فمشكلات عصرنا لن تحلها إلا المعارف الإنسانية اللازمة والخبرات الجوهرية لأناس خبروا الحياة، ولابد من موقف نفسي جديد ونظرة مبدعة جديدة لتذليل العوائق بطفرة ولود محملة بألف نتيجة ونتيجة، يرجى لها أن تحمل وتتم وتغل الشيء الكثير للإنسانية، وبمثل هذا الإنسان تدخل الإنسانية سجل الخالدين، وللتحول من القديم إلى الحديث لابد له من تحول، وهذا التحول هو الذي يقوده ناس يكونون خير خلف لخير سلف يبدأونه من الجذور بمثل عليا ومبادئ وأفكار، فأسلافنا الكرام قد صنعوا الصنيع نفسه، وإن ما نحتاج إليه في الوقت الحاضر ونحن نمر بأخطر مراحل تاريخنا أن نجد الشخص الذي يوقظ هممنا ويؤجج حماسنا لدفن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى إشاعة اليأس عن طريق إلقاء اللوم على الآخر، ومن الصعوبة بمكان أن نرتفع إلى مستوى أمالنا ونحن نعيش حالة تمزق وانقسام واختلاف وخير دواء لهذا الداء العضال هو المحبة والاتحاد والتجمع لنتميز بالتألق والازدهار لتنطلق الحياة الإنسانية نابضة بالحياة ومعبرة عن جمال النفس البشرية الوفية لإنسانية الإنسان، رغم تعاقب هذه الأزمات الاجتماعية الحادة التي هزت الضمير العالمي على نحو لم يكن له من قبل مثيل..
والله المستعان
أرسل تعليق