القيم الدينية بين المسالمة والحياة – الموت السريري والموت الرحيم نموذجا (4)
إن من أهم المبادئ الشرعية التي يمكن استخلاصها من التصور الإسلامي لقيم المسالمة والحياة تتأسس على ما يلي:
1. أن نفس الإنسان وجوارحه هي ملك لله تعالى؛ وليست ملكا للإنسان، قال تعالى “لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير” [المائدة، 122]، فنفس الإنسان مخلوقة، وهي ملك لله وتحت قدرته ومشيئته وسلطانه، وهي أمانة عند صاحبها، سيسأل عنها يوم القيامة، فلا يجوز له أن يتصرف في شيء من أجزائها إلا بما يعود عليها بالمصلحة، أو يدرأ عنها المفسدة. قال العز بن عبد السلام في قواعده: “وكذلك جناية الإنسان على أعضاء نفسه يتفاوت إثمها بتفاوت منافع ما جنى عليه، وبتفاوت ما فوته على الناس من عدله وقسطه.. وليس لأحد أن يتلف ذلك من نفسه؛ لأن الحق في ذلك كله مشرك بينه وبين ربه“[1]، وقال الكاساني في بدائع الصنائع: “والشرع لم يأذن بالمساس بالنفس أو بالأعضاء بدون وجه حق”[2]، وقال الإمام عبد العزيز البخاري في كتابه كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي “والقتل جناية على النفس، ولله تعالى فيها (أي النفس) حق الإستعباد، وللعبد فيها حق الإستمتاع ببقائها“[3].
2. أن حفظ النفس يعتبر ضرورة شرعية: وقد اتخذ هذا الحفظ مستويات ثلاث.
أ. حفظ الحياة، وذلك لأن إحياء النفوس، وحفظ المهج مقصد مقطوع بقصد الشارع إليه، قال الشاطبي: “ليس لأحد أن يقتل نفسه، ولا أن يفوت عضوا من أعضائه، لأنا نجيب بأن إحياء النفوس من.. حق الله تعالى.. فإذا أكمل الله على عبد حياته وجسمه وعقله التي بها يقيم التكاليف لا يصح إسقاطه شيء منها”[4].
وانطلاقا مما سبق فإن نفس الإنسان من المنظور الديني ليست ملكا خالصا له، وإنما هي أمانة عنده لله تعالى الذي خلقها، وأسبغ عليها نعمة الإيجاد والإمداد، وكلفه بإعمار الكون، فلا يجوز له أن يتصرف فيها بالهلاك، ولا يجوز له أن يتلفها، بل يجب عليه أن يجنبها كل ما يضرها ويلقي بها للهلاك.
ب. درء الضرر على النفس عن طريق التغذية، وقد ارتقى الإسلام بضروريات البد ن إلى ستوى الحقوق، ففي الحديث “وإن لنفسك عليك حقا“[5]، فالإنسان مطالب بالأكل والشرب والملبس والمسكن وما أشبه ذلك بالقدر الذي يدفع عن نفسه الهلاك، ويتمكن من آداء العبادات وتحقيق مهمة الإستخلاف التي أنيطت به، ولذلك لا تجوز الرياضة بتقليل الأكل حتى يضعف عن أداء العبادة.
ج. العناية بالصحة: وذلك باجتناب كل ما يقتل أو يفسد أو يضر أو يؤدي إلى فساد البنية؛ أو ضعف البدن مما يعوق عن التصرف والتقلب في أمور المعاش، ومن القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية أن المسلم لا يجوز له أن يتناول من الأشربة ما يؤذيه، أو يضره أو يقتله ببطئ أو يعجل بقتله؛ لأن أعضاءه ونفسه وديعة عنده، أنعم الله عليه بها، فلا يجوز له أن يتصرف فيها إلا بما يرضي مستخلفه فيها[6] ويلتحق بهذا التطبيب والعلاج؛ لأن منع استعمال الأدوية مع الحاجة إليها يجر ضررا، وعدم التداوي يلقي بالنفس إلى التهلكة ودفع المضار من مقاصد الشارع[7]، وقد وردت أحاديث كثيرة في وجوب التداوي منها قوله صلى الله عليه وسلم: “لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء بريء بإذن الله عز وجل“[8]. وروى أبوهريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: “ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء“[9] فيكون التداوي واجبا؛ لأنه وسيلة لحفظ الأبدان، وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب..
يتبع في العدد المقبل..
—————————————————
1. قواعد الأحكام، ج: 1، ص: 110-111.
2. بدائع الصنائع للكاساني، ج: 7، ص: 177.
3. كشف الأسرار، ج: 4، ص: 161:
4. الموافقات للشاطبي، ج: 2، ص: 14.
5. رواه الترمذي، أبواب الزهد، باب اعط كل ذي حق حقه، وقال حديث صحيح، انظر تحفة الأحوذي، ج: 7، ص: 81.
6. الغياثي غيات الأمم في التياث الظلم لأبي المعالي الجويني، ص: 768.
7. الإحسان الإلزامي في الإسلام محمد الحبيب التجكاني، ص: 168.
8. أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب لكل داء دواء، واستحباب التداوي، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج: 7، ص:385.
9. رواه البخاري في كتاب الطب باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء فتح البراري، ج: 10، ص: 141، رقم الحديث: 5678.
أرسل تعليق