القزاز القيرواني
آثرت في هذه الحلقة أن أعرف بعلم من أعلام القيروان الكبار خلال العصر الأغلبي، والقصد من هذا المقال هو المساهمة في التعريف ببعض جوانب الحركة الفكرية في هذه الحاضرة المباركة التي تجمعنا معها روابط روحية وثقافية، فسحنون، وابن أبي زيد القيرواني، وأبي عمران الفاسي، وابن عرفة، وغيرهم كثير لا نكاد نميز بين إسهامهم الفكري في كل من المغرب وتونس، وكأنما آلوا على أنفسهم أن يتكلموا باسم المغرب الكبير.. ومن هذا المنطلق يبدو التعريج على بعض الشخصيات الثقافية البارزة في تاريخ المغرب الإسلامي مسألة ذات أهمية بالغة في فهم التبلور الشامل للفكر المغربي من برقة إلى طنجة، ونعتبر أن المرحلة الأولى تتمثل في نفض الغبار عن بعض رموز الفكر المغربي في مختلف الفنون بحثا عن جذور الألق المغاربي عبر التاريخ بفضل من الله..
والعَلم الذي خصصته بالتعريف في هذه المقالة المتواضعة هو الأديب الكبير محمد القزار القيرواني..
لا نعرف بالضبط سنة ولادة أبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز، ويظهر أن أول من ترجم له لم يقف على سنة ميلاده، ولكنه قدر بالتقريب عمره حين وفاته، وسنة وفاة القزاز معروفة ولا خلاف حولها، وهي سنة 412هـ، وعلى ذلك قدر المترجمون المتأخرون السنة التي ولد فيها على وجه التقريب..
لكن المشكلة هي أن أول من ذكر عمر محمد القزاز لم يضبط عدد السنين بالعبارة كما يقتضي التحقيق، أي لم يبين أعجام الحروف حتى لا يقع اللبس فيها، وتقرأ على غير وجهها المراد، والعبارة الواردة في أغلب التراجم القديمة عن سني عمره هي تلك التي نقلت عن ابن رشيق وهي قوله: “مات.. وقد قارب السبعين فقد قرأها ياقوت الحموي 626هـ، التسعين، وقرأها ابن خلكان 681هـ”،
وخلاصة القول أن أبا عبد الله محمد بن جعفر القزاز ولد في العقد الثالث من القرن الرابع الهجري في حدود سنة 322هـ، بمدينة القيروان عاصمة إفريقية وقلعة الفاطميين في ذلك العهد؛ وأنه لا يمكن أن يكون قد ولد حوالي سنة 342هـ، كما يقدر بعض أصحاب التراجم من المحدثين، وقد تبنى محققا كتاب ما يجوز للشاعر في الضرورة للقزاز، رمضان عبد التواب وصلاح الدين الهادي سنة 322هـ، كتاريخ ميلاد محمد القزاز، ووافقا بذلك المنجي الكعبي دون أن يشيرا إلى سبق هذا الأستاذ إلى تحقيق هذه المسألة، وكتاب الكعبي نشر سنة 1968، بين تحقيق ما يجوز للشاعر في الضرورة لم ير النور إلا سنة 1982..
ونهاية القول في لقب القزاز المضاف إلى أبي عبد الله محمد بن جعفر التميمي النحوي القيرواني أنه لم يضف له إلا متأخرا لقرينة ما، وأنه أوقع كثيرا من العلماء في اللبس بسبب كثرة من يشتهرون من النحاة واللغويين بهذا اللقب، وهو أمر جعلهم يخطئون في نسبة بعض كتب أبي عبد الله لغيره، وكتب غيره له.
جاء في معجم الأدباء لياقوت: “كان إماما علامة قيّما بعلوم العربية، ذكره الحسن بن رشيق في كتاب الأنموذج فقال: “مات بالقيروان سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وقد قارب التسعين، وهو جامع كتاب الجامع في اللغة، وهو كتاب كبير حسن متقن يقارب –كتاب التهذيب– لأبي منصور الأزهري رتبه على حروف المعجم، وكتاب ما يجوز للشاعر استعماله في ضرورة الشعر”، قال ابن رشيق: “وكان مهيبا عند الملوك والعلماء وخاصة عند الناس، محبوبا عند العامة يملك لسانه ملكا شديدا، وشعر أبي عبد الله جيد مطبوع مصنوع، ومن تصانيف أبي عبد الله أيضا: كتاب أدب السلطان والتأدب له، في عشر مجلدات، وكتاب التعريض والتصريح، في مجلد، وكتاب إعراب الدريدية، في مجلد، وكتاب شرح رسالة البلاغة، في عدة مجلدات، وكتاب أبيات معان في شعر المتنبي، وكتاب ما أخذ على المتنبي من اللحن والغلط، وكتاب الضاد والظاء، في مجلد.. “.
وهو أديب، عالم باللغة، رحل إلى الشرق، وخدم العزيز باللّه الفاطمي (صاحب مصر)، وصنف له كتباً، ثم عاد إلى القيروان، فتصدر لتدريس العربية والأدب إلى أن توفي.
والقزاز شاعر مبدع، فقد نقل ابن خلكان في وفيات الأعيان عن تلميذه ابن رشيق أنه قال في الأنموذج: ” وكان له شعر مطبوع غير مصنوع، ربما جاء به مفاكهة وممالحة، من غير تحفز ولا تحفل، يبلغ بالرفق والدعة، على الرحب والسعة، أقصى ما يبلغه أهل القدرة على الشعر، من توليد المعاني وتوكيد المباني، علما بتفاصيل الكلام وفواصل النظام”.
يقول المنجي الكعبي في كتابه القزاز القيروان حياته وآثاره الدار التونسية للنشر، تونس 1968: “والمجتمع القيرواني في عصر أبي عبد الله محمد كان مجتمعا متحضرا مزدهرا غاية الازدهار، الذي لم يبلغه مجتمع قبل ذلك العصر في القيروان، فلقد كانت الدولة الأغلبية خاصة قد بذلت طيلة قرنين جهودا عظيمة لإقامة حياة مرفهة غنية في القيروان، حتى لقد بلغ من نجاح هذه الدولة في تحقيق أهدافها أنها كانت ترسل خراجا عاليا جدا إلى عاصمة الخلافة ببغداد، وما أكثر ما أشادته هذه الدويلة الصغيرة في القيروان، خاصة من دور للعلم، ومكتبات، ومرافق صحية واجتماعية باهرة، وكان الرحالة الزائرون يدهشون لعظمتها وبهجتها وكثرة مساجدها وأسواقها ومستشفياتها وحماماتها، وغير ذلك من وجوه حضارتها وثرائها”.
أما شيوخ القزاز فنذكر منهم الدارويني، وقاسم بن حبيب، والخشني الضرير، وابن وزان، ولاشك أن هؤلاء الأفذاذ أثروا في صاحبنا القزاز أيما تأثير، لقد كانوا أعلاما في اللغة والنحو والعلم بالشعر.
والدارويني هو أبو محمد حسن بن محمد التميمي العنبري، ذكر الزبيدي أنه كان إماما في اللغة والعلم بالشعر.. وكان معجبا بعلمه ونسبه، لا يحضر مجلسا إلا فخر بتميم ومعلوم أن محمد القزاز ينسب إلى بني تميم أيضا، وقد توفي الدارويني سنة 343هـ.
وكان الخشني الضرير مشهورا ـ كما يقول ابن رشيق باللغة والنحو جدا، مفتقرا إليه فيهما، بصيرا بغيرهما من العلوم.. وكان شاعرا مطبوعا يلقي الكلام إلقاء، ويسلك طريقة أبي العتاهية في سهولة الطبع، ولطف التركيب وقرب مأخذ الكلام، ولا غنى لأحد من الشعراء الحذاق من العرض عليه، وكان الأمير الصنهاجي باديس يجله بين الشعراء ومن شعره:
ولست كمن يجزي على الهجر مثله ولكننـي أزداد وصـــلا على هجـــري
وما ضـــرني إتلاف عمـــــري كــــلـه إذا نلت يومــا من لقائك فـي عمري
ونستفيد من كتاب الأستاذ المنجي الكعبي أنه كانت للخشني هيبة من الأدباء، ويراجعونه في أشعارهم ويحتكمون إليه في الإجادة، أما أبو القاسم إبراهيم بن عثمان المعروف بابن وزان النحوي فهو كما تروي كتب طبقات النحاة: كان يعد إمام الناس في النحو، وكبيرهم في اللغة، وعظيمهم في العربية والعروض، كان يحفظ كتاب الخليل في العين، وكتاب أبي عبيد في المصنف، وكتاب ابن السكيت، وغيرها من كتب اللغة، وحفظ قبل ذلك كتاب سيبويه ثم كتاب الفراء. قال أبو علي بن سعيد: “لو أن قائلا قال: إنه أعلم من المبرد وثعلب لصدقه من وقف على علمه ونفاذه، كان يستخرج من مسائل النحو والعربية أمورا لم يسبقه فيها أحد، وأمره من هذا يفوق كل أمر، وله أوضاع في النحو واللغة توفي سنة 346هـ.. همة ما بعدها همة.. “.
وابن رشيق هو أشهر تلاميذ هذا الشيخ الفاضل، عنه أخذ اللغة، والنحو كأخص ما استفاده منه. أدرك ابن رشيق أستاذه في السنوات العشر الأخيرة من عمره تقريبا، فقد ولد ابن رشيق على أرجح الأقوال في سنة 390هـ، وتوفي أستاذه سنة 412هـ، ويلمس المرء تقديرا عظيما للشيخ القزاز على لسان ابن رشيق، فهو يروى عنه في كتابه العمدة شيئا كثيرا مما يتعلق بالأدب والشعر واللغة والنحو نقلها عنه مشافهة ونقلا من كتبه ومصنفاته، وقد استخرج المنجي الكعبي في كتابه حول القزاز من كتاب العمدة كل ما حكاه ابن رشيق عن أستاذه وأثبته لترى منه بعض آراء هذا الشيخ وكلامه في اللغة وأبواب الشعر وأخبار الأدب، وهي أراء وأقوال ربما يكون القزاز أثبتها في مصنفاته المفقودة. وقد قصد المنجي الكعبي من جمعها أن تمكين الباحثين من مراجعتها بسهولة كلما أعثر البحث عن كتاب من كتبه الضائعة، وكذلك الوقوف على قيمتها في حد ذاتها..
ونستفيد من كتاب الدكتور المنجي الكعبي القزاز القيرواني، حياته وآثاره أن ابن رشيق هو أشهر تلاميذ القزاز، ولعله يشاركه في هذه المنزلة زميله ابن شرف القيرواني، المتوفى 460هـ، ولا شك أن معظم زملاء هذين الأديبين وأترابهم في الدراسة هم من تلاميذ الشيخ القزاز، وقد ذكر ابن رشيق في الأنموذج كثيرا من أدباء القيروان وشعرائها ممن عايشوا القزاز وهم في سن الطلب، ومن أمثال هؤلاء ممن نستطيع أن نتكلم عن تلمذتهم للقزاز باطمئنان وتحقيق الحسين بن محمد التميمي النحوي اللغوي، وأحمد بن مكي بن أبي طالب، وعبد الرحمان بن عبد الله المطرز..
أما الحسين بن محمد التميمي: فهو أصلا من مدينة تاهرت بالمغرب الأوسط، جاء إلى القيروان لطلب العلم، وكان محمد القزاز معنيا به، محبا له، حتى بلغ به النهاية في الأدب وعلم الخبر والأنساب، ولهذا التلميذ تأليف مشهور في عصره عن أخبار العرب وأنسابها، وكان إلى ذلك شاعرا مقدما قوى الكلام خبيرا باللغة كأستاذه، ذكر ابن رشيق عنه قال: “حدثني حماد من أصحابنا قال: سألنا عبد الكريم: من أشعر أهل بلدنا في الوقت، فبدا بنفسه وثنى بابن الربيب، وقد أورد ابن رشيق شعرا له يشهد له بالحذق في الصناعة والجودة لما فيه من القوة والاندفاع، وجزالة اللفظ، والحسين هذا هو، يعرف بابن الربيب مشهور برسالته التي بعث بها إلى ابن المغيرة عبد الوهاب بن حزم يصف فيها تقصير أهل الأندلس في حق فضائل بلادهم”.
أما مكي ابن أبي طالب القيسي القيرواني فهو يعرف بابن حموش، ولد مكي بالقيروان سنة 354هـ، وتعلم بها ومال إلى علم القراءات، ورحل صغيرا إلى مصر 367هـ، وعاد إلى القيروان 379هـ، ثم رجع على مصر بعد أربع سنوات فقضي عاما ثم عاد للقيروان، وتلقى عن أكابر العلماء أمثال ابن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة وأبي الحسن القابسي، ثم أكثر من التردد على المشرق، واستقر به المقام أخيرا بقرطبة وتلقى عنه خلق كثير وكان له الفضل في نقل كثير من مصنفات أساتذه إلى بلاد الأندلس، فلقد قرأ بالقيروان على صاحبنا أبي عبد الله القزاز كتاب الظاء والضاد، وكتاب الحروف في النحو، وكتاب المثلث في اللغة توفي مكي عن سن عالية 437هـ.
وعبد الرحمان بن عبد الله المطرز هو الذي نقل كتاب أستاذه القزاز المعنون، ما يجوز للشاعر في الضرورة. وهو أحد الشعراء الظرفاء في القيروان في القرن الخامس. رحمة الله عليهم أجمعين.
إن هؤلاء ممن ذكرنا من تلاميذ محمد القزاز تبث بالدليل تتلمذهم عليه، ولا مجال لذكر غيرهم ممن يظن فقط أنهم تلقوا عنه العلم، لكن ينبغي أن نشير هنا إلى أنه يجب أن لا نخطئ فيمن عاصره من العلماء ونعد بعضهم من تلاميذه وهم أترابه في الحقيقة، فالتلمذة شيء، والمعاصرة شيء، وقد سمى بعض الباحثين في عداد تلاميذ القزاز الشاعر الأديب يعلى بن إبراهيم الأربسي، لكن نلاحظ أن هذا الشاعر لقيه ابن رشيق وهو حدث صغير السن جدا إلى حد أنه نهره عن التدخل بين الشيوخ، وكان يعلى قد غض من أحد أساتذته أمامه.. فلا يعقل أن يعد في تلاميذ الشيخ القزاز، والله أعلم..
أما الرحلة إلى المشرق فثابتة لأبي عبد الله القزاز، ولا نحتاج إلى مؤرخ لإثباتها؛ لأن صاحبها دل عليها -عن طريق غير مباشر- في كتبه فهو يروي مشافهة عن الآمدي العراقي صاحب الموازنة. والآمدي لم يرحل أبدا إلى القيروان ليقابله صاحبنا، وإنما حج إليه صاحبنا كما يحج الناس إلى الكعبة ليلقاه ويتزود من علمه الجم بأخبار الشعر والشعراء، وليشحذ ذوقه الفني على رحى ذوق الآمدي ذلك الناقد الممتاز.
توفي أبو عبد الله محمد بن جعفر القزاز سنة اثني عشرة وأربعمائة للهجرة 412هـ، بمدينة القيروان، وكانت وفاته تاريخا لا ينسى عند معاصريه لما كان عليه من الصدارة في العلم والحظوة الكبيرة عند الملوك والأمراء والهيبة والمحبة في نفوس الناس، ولذلك نقل لنا ابن رشيق تاريخ وفاة الشيخ بشيء من الضبط، وليس على سبيل التقريب كما قد يحدث مع من هم دونه علما وشهرة.
ونورد فيما يلي ثبتا بتآليف أبي عبد الله القزاز. ففي مجال النحو نذكر كتاب الحروف، وإعراب الدريدية وشرحها، وكتاب المعترض، وكتاب المفترق، وما يجوز للشاعر في الضرورة، أما كتب اللغة فنذكر منها الجامع، والمثلث، وكتاب فيه ذكر الشيء من الحلي، والعشرات، والمئات، والضاد والظاء، والكلمات المشاكلة الصور، أما الكتب الأدبية العامة فمنها التعريض والتصريح ، وشرح رسالة البلاغة في عدة مجلدات، وما أخذ على المتنبي من اللحن والغلط في جزء، وأبيات معان في شعر المتنبي جزء، و معاني الشعر، شرح رسالة الشيخ أبي جعفر العدوي، وأدب السلطان والتأدب له. ولكتاب ما يجوز للشاعر من الضرورة أهمية استثنائية، ويمكن اعتباره درة من درر الأدب العالي الذي ساهم في إثراء اللغة العربية في القيروان والمغرب بشكل عام، يقول محققا الكتاب رمضان عبد التواب، وصلاح الدين الهادي في مقدمة التحقيق: نشر دار العروبة بالكويت ودار الفصحى بالقاهرة 1982، “هذا الكتاب في الضرائر الشعرية، عظيم القيمة جليل الفائدة، وتتجلى قيمته إذا عرفنا أنه أقدم كتاب يصل إلينا في هذا الموضوع، ولم يسبقه إلا كتاب ضرورة الشعر لأبي العباس المبرد تـ 285 هـ، وهو مفقود، ولم يؤلف بعده في الضرائر الشعرية، إلا كتاب ضرائر الشعر لابن عصفور الاشبيلي تـ 663هـ، المطبوع في بيروت سنة 1980، وكتاب موارد البصائر لفرائد الضرائر للشيخ محمد سليم تـ 1135هـ، وهو مخطوط، من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب للقزاز، لقلة التأليف في هذا الموضوع من جهة، ولضياع هذه المؤلفات من جهة أخرى.. “.
رحم الله الأديب القزاز القيرواني وجازاه عن القيروان والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..
أرسل تعليق