والآيات والبصائر مبثوثة في الكون، كما أنها مكونات القرآن؛ إن آيات سورة العلق تأمر سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن خلاله الإنسانَ في كل زمان وفي كل مكان، أن يقوم بضربين من القراءة: قراءة آيات وبصائرِ الخلق: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الاِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ” [العلق، 1-2]، وقراءة في الوحي الذي حفظه الله في السطور وفي الصدور: “اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ” [العلق، 3-4]. فهي قراءة في آيات وبصائرِ الكون بتوجيهٍ وترشيد من آياتِ وبصائر القرآن.

وإن إحلال الوحي في واقع العالمين كان هو العمل الذي قام به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الجماعة المسلمة الأولى التي تعتبر جنين الأمة (الفرد / الجسد)، الأمة التي تكتمل عبر الزمن، حيث تركها عليه أزكى الصلاة والتسليم مقياسًا شاخصًا لا تتخوّفه الأحداث. فقد بدأ زرعه عليه الصلاة والسلام للآيات من نفسه الشريفة؛ “كان خلُقه القرآن“^[1].

 ثم زرعها عليه الصلاة والسلام في نفوس أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، من خلال الجمع بين القراءتين، الوحيين المسطور والمنظور^[2]، قال تعالى: “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ اَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَأزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا” [الفتح، 29]، ليرفعها الأصحاب الكرام رضوان الله عليهم علامات وبصائر في واقعهم^[3]، واقع المدينة المنورة والذي استحق أن يكون الوحدة القياسية وحالة السواء التي تقاس عليها التجمعات البشرية.

يتبع في العدد المقبل..

الأمين العام

للرابطة المحمدية للعلماء

——————————————————–

1. أخرجه البخاري في الأدب المفرد، 308.

2. إذا كانت القراءة في الجانب الكوني تتم بالتفكّر “وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والاَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ” [اَل عمران، 191]. فإنها في الجانب المسطور “الوحي” تتم بالتدبر “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ اَقْفَالُهَا” [محمد، 25].

إن الجمع بين القراءتين تجلٍّ من تجليات التكامل المعرفي في القرآن المجيد، فلا يخفى على قارئ ولا قارئة لكتاب الله، أن أول ما أشرق من أنوار هذا الوحي الخاتم على دنيا الإنسان هو قوله سبحانه: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الاِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الاِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” [العلق، 1-5].

3. إن الآيات والبصائر في القرآن المجيد تمكّن من إضافة الوجهة إلى قدرات الإنسان التسخيرية، والناجمة أساسًا عن تعليم الأسماء الممكّنة من قراءة الآيات والبصائر الكونية كما يتضمن قوله تعالى: “وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ  قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ  قَالَ يَا ءَادَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ” [البقرة، 30-32]، بيد أن الوجهة التي تحررها لنا آيات الكتاب الحكيم، وهي من الضرورة بحيث بدونها لا ينال رشد ولا يُهتدى إلى قبلة.